قصة وعبرة

الجمعة، 14 يونيو 2019

• طب نفسي.. ضد الطب النفسي


يعترف الكثيرون من العاملين بالطب النفسي بأن هناك مناطق كثيرة ينقصها المزيد من الضوء في ممارستهم لهذا التخصص، كما أن هناك مناطق في هذا العلم ووسائل علاجية تستحق المراجعة. ومن بين صفوف الأطباء النفسيين لمع اسم "لانج" و"ساز" كمعارضين للكثير من وسائل ومفاهيم هذا التخصص حتى باتت تنسب إليهما مدرسة تسمى "المدرسة المضادة للطب النفسي ".. فماذا عن ذلك التضاد، وتلك المفارقة؟!.

ما العقل؟ ما الجنون؟. نبدأ بالسؤال، وربما لا نصل أبعد من السؤال.
وحتى لا نتوه أمام "العقلاء"، نكتفي هنا من عقولهم بفهمهم لعقول "المجانين" وتعاملهم معهم، ولن نبدأ بالعقلاء البدائيين حتى لا نثير الريبة، ولكننا سنبدأ من منتصف القرن السابع عشر ونقرأ: "إن المرضى العقليين ظلوا يعاملون معاملة قاسية. إذ كان كثير منهم يودعون في السجون وبيوت الصدقات، على حين كان الألوف منهم يتجولون في الشوارع يستجدون الطعام. أضف إلى ذلك أن المستشفيات العقلية في ذلك العصر لم تكن تزيد على أن تكون سجونا كبيرة. ففي إنجلترا كان نزلاء مستشفى بيت لحم تقيد أيديهم بالأغلال ويشدون بالسلاسل إلى الجدران. كذلك كان المرضى يعرضون على الناس لتسلية أهل لندن الذين لم يكونوا يمتنعون عن دمع مبلغ زهيد لقاء مشاهدة هذا العرض. أما العلاج فلم يكن له وجود تقريبا، وكان المرضى العقليون يعدون محظوظين إن هم تمكنوا من تجنب عقاب السجانين الساديين." (شيلدون كاشدان، علم نفس الشواذ، ترجمة أحمد عبدالعزيز سلامة، ص 36، دار الشروق). ويمر قرن ونصف (من منتصف القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر) قبل أن يطالب الطبيب الفرنسي فيليب بينل بفك أغلال المرضى العقليين في مستشفى بيستر في عام 1793. وكان فك الأغلال نقطة البداية، لا نهاية المطاف. وينقضي قرن ونصف (من أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين) ويكون الطب النفسي قد ارتدى عباءة العلم ودروعه، ويكون قد اكتسب هالة من السلطة، قبل أن ينشرر. د. لانج أول كتاباته المهمة "الذات المنقسمة The Divided Self" في عام 1957، ويثير الشك حول الكثير من نظريات الطب النفسي وممارساته. ولانج ليس أول العلماء الذين انقلبوا على النموذج السائد في العلوم التي درسوها ودرسوها بغية تطويرها وتوسيع مجال الرؤية فيها، ولن يكون آخرهم. إن ثنائية العقل- الجنون التي يتأسس عليها الطب النفسي، إلى حد بعيد، تصبح موضع شك، ويجب ألا نعجب حين نعرف أن ميشيل فوكو كان يسيطر عليه سؤال حتى الهوس: " هل هناك من حدود فاصلة بين الجنون والعقل، أم أن الجنون من جنس العقل والعقل من جنس الجنون؟ ". ونراه يرفض لغة العقل وإمبرياليته، ويرفض تدجين العقل لظاهرة الجنون. إنه يريد إعطاء هؤلاء المستبعدين المهمشين حق الكلام والوجود، ويريد إخراجهم من عزلتهم المريرة التي سجنهم فيها الطب النفسي والمجتمع البرجوازي الواثق من نفسه وقيمه حد الغرور (هاشم صالح، فيلسوف القاعة الثامنة، مجلة الكرمل، العدد 13، ص 9 ـ 50). ولكن، لماذا الكلام عن فوكو إذا كنا نريد الكلام عن لانج؟ ربما يكون ما يريده لانج لا يختلف كثيرا عما يريده فوكو، وربما يكتسب أبعادا ا أخطر إذا تذكرنا أن لانج طبيب نفسي، أي أنه يشهد عليه من داخله، أو أنه شاهد من أهله. ولد لانج في جلاسجو عام 1927 وتخرج في كلية الطب جامعة جلاسجو. وتتسع اهتماماته التي يكتب فيها لتمتد بين الطب النفسي والنظريات الاجتماعية والشعر، بالإضافة إلى عدد هائل من المقالات والمراجعات في المجلات العلمية.
طبيب نفسي مضاد
ينتقد لانج الكثير من تصنيفات الطب النفسي ونظرياته وممارساته ويحاول تقديم رؤية بديلة، رؤية مضادة للنظرة السائدة في الطب النفسي المعاصر، وهو أول طبيب نفسي وصف بأنه طبيب نفسي مضاد. ومصطلح "الطب النفسي المضاد anti -psychiatry" مصطلح صاغه دافيد كوبر لأنه رأى أن الطب النفسي بوصفه فرعا من فروع الطب كان، ولايزال، تغلب عليه أساليب القمع، وكان مصطلح "الطب النفسي المضاد" يعني أنه مضاد للطب النفسي التقليدي بوصفه علم العلاج العقلي وفنه.
يرى لانج أن الطب النفسي منوط به مهام عديدة، منها ما يشبه مهام الحقول الأخرى في الطب، ولكنه يتميز عنها من نواح عديدة: إنه الفرع الوحيد من فروع الطب الذي يعالج الناس بوسائل تؤثر في أجسادهم في غياب أي تغير مرضي جسدي معروف، وهو الفرع الوحيد من فروع الطب الذي "يعالج " السلوك فقط في غياب الأعراض والعلامات المرضية المألوفة، وهو الفرع الوحيد من فروع الطب الذي يعالج الناس رغم أنوفهم بالوسيلة التي يراها ضرورية، وهو الفرع الوحيد من فروع الطب الذي يسجن المرضى إذا رأى أن هذا ضروري. ويرى لانج أن مؤسسات الطب النفسي تقوم بدور السجون حيث يسجن فيها أولئك الذين لا يطيقهم الناس في الخارج ويريدون عزلهم وإقصاءهم بسبب مخالفات غير إجرامية.
ينشغل لانج انشغالا كبيرا بمريض الفصام، ينشغل بالعالم الذي أتى منه قبل أن يدخل مؤسسات الطب النفسي والذي يعود إليه بعد خروجه، ويدافع بدأب عن إنسانيته، إنه إنسان قبل أن يكون مريضا، ويرفض لانج فكرة الهوة السحيقة التي تفصلنا عن مريضي طالب الفصام وهي هوة لا يكل الأطباء النفسيون عن إخبارنا بوجودها واستحالة عبورها، وقد أطلق عليها كارل باسبرز هوة الاختلاف، ويطلق عليها مانفرد بلويلر الاختلاف التام. ويرى لانج أن تصريحات باسبرز وبلويلر تصريحات استثنائية ويجب رفضها سواء أطلقها الأطباء النفسيون أو سواهم. ولكن باسبرز وبلويلر يعبران، مع الأسف، عن شعور يشاركهما فيه عدد كبير، وإزاء هذا اضطر هاري ستاك سوليفان، الطبيب النفسي الأمريكي، إلى إعلان أن هؤلاء الناس "بشر ببساطة" قبل أي شيء آخر. ويذكر لانج أن كارل روجرز أخبره أن مارتن بوبر قال له ذات مرة إن مرضى الفصام لا يمكنهم التواصل مع الآخرين وإقامة علاقات معهم. ويرى لانج أن هذا الرأي يمثل موقف الطب النفسي، مما جعله ينشق عليه، ويقول: "إنه تعميم لا ينسجم ببساطة مع خبرتي الشخصية بهؤلاء الناس ". إن هذا المذهب الذي يتحدث عن هوة الاختلاف بيننا وبينهم يأخذنا إلى هوة من نوع آخر وهي كيف "ت " عاب "هم "؟ ويرى لانج أن النظام النازي في ألمانيا في أواخر الثلاثينيات مضى بهذا المذهب إلى نتيجته المنطقية حين منعهم من الإنجاب، ثم رأى أن لا مبرر لوجودهم، وبدأ النازيون تنظيم ألمانيا وترتيبها بقتل 50 ألف مريض في مستشفيات الأمراض العقلية إلى أن توقفوا تحت ضغط الكنائس وجهات أخرى، ولكن لم توجد صرخة عامة ضد النظرية وتطبيقها.
ويلخص لانج موقفه على النحو التالي: "أ أجعل أبدا المعاناة العقلية مثالية، ولم أجعل اليأس، أو التدمير، أو العذاب، أو الهلع رومانسيا.. ولم أنكر أبدا وجود نماذج عقلية وسلوكية معذبة. أ أدع نفسي أبدا طبيبا نفسيا مضادا، واستنكرت الاسم منذ صدوره عن صديقي وزميلي دافيد كوبر، إلا أنني أتفق مع أطروحة الطب النفسي المضاد حين يرى أن الطب النفسي يستخدم لاستبعاد وقمع من يريد المجتمع استبعادهم وقمعهم. إن المجتمع سينفذ هذا الاستبعاد إذا احتاج إليه، سواء بمساعدة الطب النفسي أو من دونها".
برهان عملي
لم يكتف لانج بالاحتجاج، لكنه حاول تجربة أساليب جديدة، ومن أشهر هذه التجارب ما قام به في الستينيات في أحد المراكز الاجتماعية في لندن حيث عاش بعض زملائه مع بعض المرضى الذين يعانون من اضطراب عقلي شديد والذين كان يجب حجزهم، طبقا لرأي الطب النفسي التقليدي، في مستشفيات الأمراض العقلية أو وحدات الطب النفسي. ومن هذا المركز تلاشت الحواجز بين الأطباء والمرضى ولم تكن هناك أبواب مغلقة أو علاج لوقف حالات العقل أو تغييرها، ويقول لانج عن هذه التجربة: "أعلنا الحرية للجميع: حرية التفكير والرؤية والشعور بأية طريقة مهما تكن، وحرية الإيقاع الحيوي أو الذاتي لنا جميعا. ومن ناحية أخرى كان لنا حق الاعتراض على أي سلوك عدواني من أي نوع ومهما كان السبب.
وقد نلنا فرصة أن نعيش معا... وحيث إن هذه التجربة تمثل، من نواح عديدة، النهج المضاد تماما للنهج المألوف في الطب النفسي فقد تعرضت لكثير من النقد والجدل وسوء الفهم ".
ويبقى السؤال: "ما العقل؟ ما الجنون؟ ".
هل الإنسان "المجنون " هو الذي يرفض أعمال القتل والتدمير، تلك الأعمال اللاعقلانية، التي يمارسها شقيقه "العاقل "، هل هو من يرفض القيود التي تفرضها الحياة "المتحضرة"؟.

تابعونا على الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب والمعلمين والأهالي
حكايات معبرة وقصص للأطفال

إقرأ أيضًا                      

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق