الأطفال وعصر الصورة
ساهمت الثورة الكبيرة التي شهدتها مجالات التكنولوجيا الرقمية في التغيير الجذري للعالم الذي نحيا فيه، كما أنها لعبت دوراً حاسماً في الطريقة التي نتفاعل بها مع هذا العالم من حولنا، ومع بعضنا البعض، كذلك منحت تلك التكنولوجيا قدراً أكبر من الاستقلالية والسيطرة للفرد، وغيّرت من تصورنا لمفاهيم أساسية مثل الزمان والمكان والمجتمع، وبذلك تغيرت أنماط تمثيل ذلك الواقع عما كانت عليه في مراحل سابقة.
من سمات عصرنا الراهن أنه «عصر الصورة»، مما يعني هيمنة الصورة وسيادتها لتكون إحدى أهم أدوات عالمنا المعرفية والثقافية والاقتصادية والإعلامية.
الصورة بين الحدود والمخاطر
إن التدفق المستمر للصورة البصرية وحضورها الدائم في الحياة اليومية جعلانا داخل سطوة إعلامية، لا تتيح للفرد مجالاً للتأمل، ويبقى انطباعها في الذاكرة (وفق نظرية الأثر)، وبفعل الثورة التكنولوجية فإننا نعيش عصر الصورة، حيث يعتبر التصوير الرقمي مميزاً لحقبة ما بعد الحداثة، وقد قال بورديان: «إن العالم مجرد صورة نقلاً عن صورة، وأصبحنا في عالم تهيمن عليه الصورة، والواقع في خلفيتها، فلم تعد هناك صورة وأصل، بل صور ذات أصول متعددة».
ويعد جيمس ألكينز (1972) أول من استخدم مصطلح ثقافة الصورة، أو الثقافة المرئية، حين أشار إلى أن هذا المصطلح قد استخدم في كتاب ميشيل باكسنال «الصورة والرسم في إيطاليا في القرن الثامن عشر»، وأن هذا المفهوم نشأ خلال الخمسينيات في إنجلترا وانتشر في أمريكا بوساطة الدراسات التي ركزت على البصر والصورة، فرؤية الصورة: كيف تظهر؟ وكيف تؤثر في كل مظهر من مظاهر حياتنا وسلوكنا الاجتماعي؟ وهي أحد الميادين العلمية الجديدة في وقتنا الحالي، فلا يمكن تصور حياتنا الراهنة من دون صور.
وقد حذر البعض من سيطرة الصورة على ثقافة الإنسان، وحلولها محل ثقافة الكلمة، فالصورة تتصف بقدرة عالية على الدخول إلى ذاكرة الفرد والاستقرار في «الذاكرة البصرية والذاكرة طويلة المدى».
ويرى ميشيل فوكو أن لثقافة الصورة حدوداً ومخاطر لأنها تستنزف حاسة البصر، وتؤدي إلى إلحاق الضرر بالعقل، كما أنها تقلص من سلطة المثقف والمعلم ودورهما بوصفهما حارسين تقليديين على المعرفة.
وأصبحنا مجتمع مشاهدة، لأن الصورة تستغرق الفضاء الثقافي، وتسجل حضورها في الحقول العلمية والتربوية والمعرفية والتواصلية، فهي في السينما والتلفزيون، وفي الصحف والمجلات، وبمــــواقع التـــواصل الاجـــــتماعي والإنترنت، وعلى الجدران والإعلانات التجارية، وصارت جزءاً من المشهد اليومي، وتنوع الصورة من النواحي التقنية والشكلية، فهناك الصورة الناطقة، والصامتة، والمتحركة، والجزئية، والكلية، والملونة وغير الملونة، والمكبرة والمصغرة، والبصرية، والذهنية، واللاحقة، والرقمية، والمتحركة التي نراها على شاشات التلفزيون، وصور الأحلام، وصور التخيل والخيال، وصور الذاكرة، والصور الفوتوغرافية، وصور الواقع الافتراضي، ودور هذه الصورة في تكوين شخصية الطفل من النواحي المعرفية، والانفعالية، والجمالية، والسلوكية والأخلاقية، وهذا قد دفع ببعض الباحثين إلى اعتبارها موازية للثقافة ذاتها، ومن ثَّم خفضت من دور اللغة( الشفاهي والكتابي) وقربت بين الثقافات في ظل العولمة.
وبسبب أهمية الصورة في عصرنا الحالي، ومع تطور وسائل الاتصال ونقل المعرفة، نشأ مصطلح ثقافة الصورة والثقافة البصرية، وصارت جزءاً لا يتجزأ من أدوات الاتصال، ليس على مستوى التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، بل على المستوى التعليمي داخل المؤسسات التربوية والاجتماعية. ويشير مصطلح ثقافة الصورة إلى المكونات المحددة للثقافة عامة، باعتبارها مجموعة من الممارسات والخبرات والقيم والمعارف والسلوكيات المرئية أو البصرية التي أصبحت مجال تخصص علمي حديث العهد.
خصائص الصورة البصرية
1 - التشويق والجاذبية
الصفة الأولى التي تتميز بها المادة الثقافية الإعلامية الجديدة (الصورة)، أنها تقدم نفسها بشكل مشوق وجذاب، ليصل تأثيرها إلى حد السحر والإيحاء الذي يستسلم المتلقي له. ويكون ذلك بسبب الجاذبية التي تلامس الوجدان من جهة، وخفض عملية النقد لدى المتلقي من جهة ثانية.
2 - اللغة الخاصة
الصفة الثانية التي تتمتع بها الصورة أنها تلغي اللغة، وتصنع لها لغة خاصة بها. وعلى الرغم من مصاحبة اللغة للصورة أحياناً، كما في النشرات، وبرامج الأطفال، والبرامج الغنائية، فإن قوة الذي يعرض في الصورة تفوق قوة ما ينقل في اللغة( الكلمة)، بما يساعد في حدوث تطابق بين محتوى الصورة ومحتوى ذهن المتلقي.
3 - الإقناع
تحتل الصورة مكانة إقناعية، وحين ترتبط بالكلمة أو بالصوت تصبح مصدر تواصل ومعلومات مكتمل العناصر فيما تحمله من قيم ومفاهيم وعناصر ثقافية مادية وغير مادية، من هنا يحتل الإعلام السمعي ذ المرئي دوراً مهماً في الاختراق الثقافي الاجتماعي، وإحالة الثقافة المجتمعية لتحل محلها ثقافة الصورة التي تعمل على نشر ثقافة العولمة بما يصوغ العالم، وتشكيله بشكل يتجاوز حدود الزمان والمكان، فالصورة أداة لإعادة تشكيل الوعي.
4 - التفرد والتميز
تصبح حدثا متفرداً ووحيداً فيما تحمله من مفاهيم. فمنذ ستينيات القرن الماضي كانت الصورة تروج للاستهلاك أو تجسده، وكانت النزعة الاستهلاكية والاتصالات تدفع الأفراد للقيام بأدوار جماعية حددها الغير، وهو ما يمثل من الناحية السيكولوجية نوعاً من الاستحواذ.
5 - الفضاء الثقافي والعلمي
تستغرق الصورة الفضاء الثقافي، كما تسجل حضورها في مختلف الحقول العلمية والمعرفية والاتصالية، لأنها في السينما، والتلفزيون، ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي الكتب المدرسية، وعلى الجدران، واللوحات الإعلانية التي أصبحت جزءاً من المشهد اليومي.
وفي مجال النقد الأدبي، يلاحظ التحول الثقافي والأدبي، حيث انتقل الجمهور من ثقافة الأدب إلى الثقافة العامة، أي ثقافة الصورة وثقافة الدراما وغيرها. فالصورة لم تعد لحظة زمنية جامدة، ولا حالة ثقافية محايدة، وبسبب ذلك أصبح الإنسان أمام كمّ هائل من التأويلات، بما يفتح آفاق التأمل والتفسير على وقع الإشعاعات الثقافية المنبثقة من الصورة لا بوصفها ذاتاً محنطة أو تسجيلاً محايداً للحظة زمنية، تنبث لحظة بلوغها نقطة المشاهدة.
تأثير الصورة في الطفل
تحتل الصورة مكانة متميزة في النمو المعرفي للطفل، وفي تكوين أفكاره وتصوراته، وثقافته عامة. ويلعب النمو المعرفي/ وخاصة الخيال الذي تشكله الصورة والألوان/ دوراً مهماً في النمو الحسي والإجرائي، ومن ثم النمو المعرفي عامة.
والصورة في المجال التربوي والثقافي هي مرآة النص، كما تغني الصورة النص كاملاً من خلال تصوير الشخصية في سلوكها ومزاجها، فالصورة قادرة على تغطية جميع مظاهر القصة أو الموضوع بفعالية تفوق النص ذاته، بما يساعد في تكوين صور ذهنية تشكل البنية المعرفية للطفل.
وتمثل الصورة اللغة التعبيرية، وهي أهم لغة يفهمها الطفل، لأنها تقوم مقام الكلام والتحدث، فلو أراد المدرس أو كاتب قصص الأطفال أن يحكي للأطفال عن شكل هندسي دون رسمه، فإنه يحتاج إلى وقت طويل ليفهم التلاميذ ماذا يعني بالدائرة، فالكلمة لا تثير خيال الطفل ولا تنمي لديه معرفة الأسماء والأشكال، ولكن الصورة توضح المعنى في ذهنه وترسخه.
والصورة في كتب الأطفال ومناهجهم هي الوسيط الذي لا يقاوم، لذلك تستخدم في الوسائل التعليمية وفي الأدب، والاجتماعيات والعلوم المختلفة، لتجسيد المواقف الحسية بواقعية وبدقة. كما تم توظيفها في الشعر والأدب لتنمية خيال الأطفال وتفكيرهم الإبداعي من خلال الصور التشبيهية وتجسيد الحالة النفسية والانفعالية للشاعر.
وتستدعي ثقافة الصورة الاستجابة الجمالية لدى الطفل، سواء من خلال المثيرات الخارجية( الصورة والألوان) أو من خلال المثيرات الداخلية للطفل نفسه، فاللون هو شكل من أشكال قدرتنا المرئية، لأنه الأكثر تأثيراً فينا، ويمكن تحديد وظيفة اللون في جذب الانتباه، وتوصيل المعلومات والتخيل وإثارة المشاعر.
كما يمكن استخدام اللون في المناهج والكتاب المدرسي لتسهيل توصيل الفكرة إلى ذهن الطفل، وتدعيم الاتجاهات العاطفية والوجدانية. وتعمل الألوان في الصورة على إحداث التأثير النفسي المطلوب، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بما يساعد في تكوين الاقتناع، والتأثير في سلوكيات الطفل ومواقفه.
أهمية لغة الصورة عند الطفل
إنّ لغة الصورة هي لغة مرئية لا تحتاج إلى أي وسيط توضيحي، فالصورة هي ربط للكلمة المراد إدراكها، فالكلمات المكتوبة عبارة عن صور مرسومة، فلا توجد لفظة نتحدث عنها أو نتعلمها أو نكتبها دون وجود الخلفية أو الظل لهذه الكلمة المتمثلة في الصورة، ومن ثم فإن عملية القراءة لدى الطفل تنطلق أو تبدأ بقراءة الصورة، وهي التي يتعرف الإنسان من خلالها على شكله ومحيطه، كما قال أرسطو، وحضارة الإنسان الحالي هي حضارة الصورة، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف والمفكر رولان بارث.
والوصول بالطفل إلى مستوى إدراك الصورة واستيعاب خصائصها المعرفية لا يتأتّيان إلا بوجود شرطين أساسيين هما الأسرة والمعلم؛ فكلاهما يجب أن يحبب للطفل القراءة الفنية للصور، ويدفعه إلى الاستمتاع بالنظر إليها، مما يجعله يكتسب ملكتي الذوق والتفكير، فالصورة تنشئ لديه نشاطًا وفاعلية، وهذا ما أكده عالم التربية جيروم بروفر حين قال: «إن الناس يتذكرون فقط مما يسمعونه وفقط مما يقرأونه، في حين يصل ما يتذكرونه من بين ما يرونه أو يقومون به»، وهو يقصد أن تذكر الأشياء بشكل كبير يتم عن طريق الرؤية.
ومن هنا يكمن الدور الكبير الذي يتحمله المدرس، لأنه مسؤول مسؤولية كاملة عن تشكيل هذا الطفل الصغير وتنشئته على ثقافة أصيلة من القيم والأعراف التي يتميز بها المجتمع، فالطفل في حالة تلقٍّ لكل ما يصل إليه من معلومات ومعارف، ويفعل ذلك بسعادة كبيرة، لأنه في حالة اكتشاف وبحث عن عالمه وأشيائه التي تبعث فيه الأمل والفرح، وبحث عن إجابات عن مسائل هي بالنسبة إليه غامضة يريد معرفة حقيقتها، فهو لا يدرك من الحياة سوى ما يشغل ذهنه الصغير ويلفت انتباهه في كل لحظة، ويثير لديه الاستمتاع بمباهج الحياة.
وقد أشار جان جاك روسو إلى هذه النقطة بقوله: «دعوا الطفولة تنضج في الأطفال، احترموا الطفولة، ولا تتسرعوا في الحكم عليها خيراً أو شراً، إن الإيقاع البطيء لزمن النمو ليس شراً نحمله، بل وظيفة ضرورية للنمو، إننا نرعى النبتة بالحراثة ونبني الإنسان بالتربية».
ومن هنا يجب توظيف الصورة بطريقة تربوية موجهة للحفاظ على الخصوصية الثقافية للمجتمع، ويتطلب هذا تعاوناً بين مختلف المؤسسات الاجتماعية، والتربوية والإعلامية، والثقافية، والتقنية.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًاقصة
عندما يصبح الأهل محتاجين إلى رعاية أبنائهم
فوائد قراءة القصص للأطفال قبل النوم
سبع خطوات للتعاطف مع الذات عند الشعور بالاكتئاب
هل ستصبح كتب الطبخ شيئاً من الماضي
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق