قصة وعبرة

السبت، 8 فبراير 2020

• ابني يُقَلِّدني وليثه لم يفعل

اعتاد صغيري وهو بالكاد يَعبُرُ عامه الثاني أن يُحيّي الناس كلما دخل إلى مجلس، بالطبع مقلداً إياي. وكم من مرة يُفاجَأ حشدٌ من الرجال بهذا الطفل وهو يقول لهم "السلام عليكم"، وفي كثير من الأحيان لم يكن يجد رداً لسلامه، فمنهم من لم يكن يتصور أن هذه الأصوات التي تصدر من هذا الطفل تعني "السلام عليكم"، وآخرون لم يتوقعوا من طفل في سنه أن يحييهم، ولهذا فهم يكذبون ما يسمعون ولايردون.

أياً كان السبب، لم يكن هو يصمت بل كان يعيد عليهم السلام حتى يجيبوه، أو أني كنت ألفت نظرهم إلى أنه يحييهم، وأن عليهم أن يجيبوه.
في جميع الحالات، كانت قضية السلام هذه تنتهي بفاصل من الضحك، من الكبار طبعاً، وتعليقات استحسان لهذا الطفل، ومداعبات له، وهي أمور كما ترون تمشي في سياق (طبيعي)!!، وتمر الأيام، ويكبر الطفل شهوراً أخرى، ويزداد إدراكه لما حوله شهوراً أخرى، وهو أمر (طبيعي)، حتى كان ذاك اليوم.
اصطحبته معي إلى العمل كما اعتدت من وقت لآخر، أنا الأب الفخور بهذا الطفل الذي يقلدني، وإنني أستمتع بهذا التقليد وأخافه، فقد أصبحت أخشى أن آتي بأي حركة غير محسوبة أمامه، أو لفظة مستهجنة من الآخرين، وهي أمور أعلمها أنا بحكم سني، ولن يدركها هو. يومها دخلت إلى العمل، والتف حوله زملائي منتظرين أن يحييهم، ولكنه لم يفعل، وعندما طلبت منه أن يحييهم أبى ولم يطاوعني، تَمَنُّعٌ (طبيعي) لطفل، ولكن الغريب أن هذا التمنع لم يكن من طبيعته هو... عندما أصبحنا وحدنا، هو وأنا، سألته: "لماذا لا تُحيّيهم"؟!، أجابني بكل بساطة: "لأنهم سيضحكون عليّ إن حييتهم"
كانت إجابته صدمةً أحزنتني، نعم حزنت، فالطفل الصغير، طفلي أصبح يدرك سطوة الآخرين، المجتمع، الذي قد يضحك عليه، أو منه، والذي سيبكيه فيما بعد، وسيعد عليه خطواته، وبرد فعل (طبيعي)، وجدتني أسرع بالقول: "لا... إنهم لايضحكون عليك، بل هم مسرورون منك لأنك تحييهم، لذلك فهم يضحكون"، قلتها والحزن يعصرني، وكأنني أنفي تهمة عن نفسي لا عنهم، أو كأنني أرجوه أن يبقى طفلاً كما هو، أرجوه ألا يخافهم أو يخشاهم، فمازال الوقت مبكراً، قلتها له مرة وصَمَتُّ، لقد انتبهتُ إلى أنني أشاركهم في هذه المذبحة، وأنني أعلمه أولى حيل الكبار في التعامل مع بعضهم، (لايضحكون عليك، بل مسرورون منك).
ما هذا الذي أقوله؟ أيُّ هراءٍ أُعلِّمه إياه؟ هراءٌ لن يفهمه، وأتمنى ألا يفهمه العمر كله.
في يومه الأول في المدرسة، وبعد أن تركته هناك، عدتُ وأنا أحبس دمعةً تحاول أن تَفِرَّ من عيني.
نعم، كنتُ أُحاولُ ما استطعت ألا أبكي، فقد سلمته لهم، تركته لهم، ولم يكن أمامي إلا أن أفعل ذلك.
إقرأ أيضًا                           
للمزيد
أيضاً وأيضاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق