قصة وعبرة

الاثنين، 14 يناير 2013

• العباقرة يُصنعون ولا يُولدون



          إليكم سؤال يحيرنا جميعا: ما العوامل التي تجعل من الممكن لنا ولأطفالنا - تحقيق العظمة؟ ما الذي يطلق شرارة العبقري بداخلنا؟ وما الذي يثير دهشة وإعجاب وربما دموع الجمهور أو المحيطين بنا عندما يستمعون لعازف موهوب على آلة الفيولينه أو لشخص يلقي شعرًا أو حتى لشخص يلعب كرة القدم؟ ما الذي يجعل المرء عبقريًا في إدارة الأموال بحيث تدر عليه أرباحًا طائلة بعمليات قليلة وبسيطة؟

          في كتابه الأخير «العبقري بداخلنا جميعا: لماذا كل ما قالوه لنا عن الجينات والموهبة واختبارات الذكاء خاطئ؟» يفند ديفيد شينك، وهو كاتب ومراسل صحفي للعديد من المطبوعات والجرائد والمواقع ولديه عدة كتب ضمن قائمة الأعلى مبيعًا، من بينها THE FORGETTING وDATA SMOG  و THE IMMORTAL GAME، من خلاله وبشكل علمي وشخصي أيضا الفكرة التي نعتقد فيها جميعًا بأن الناس يولدون أذكياء أو موهوبين أو بقدرات بدنية عالية ولكن الحقيقة التي يطرحها شينك أننا جميعا نحمل في جيناتنا احتمالات وإمكانيات كثيرة وهي أعظم بكثير مما نظن أو يمكن أن نتخيل في حياتنا.
          ويقول إنه في القرن الأخير، كانت جدلية الطبيعة/ التربية تُغفل أن المهارات الإنسانية هي نتاج خليط غامض متفاعل من الجينات والبيئة (GxE)  وقليلون مباركون منا هم من يستطيعون الضغط على حدود هذه الإمكانيات واستغلالها جميعًا ليصبحوا عباقرة.
          ومن دون استثناء، العباقرة يصنعون ولا يولدون فهم أناس استطاعوا صقل مهاراتهم بإخلاص متناه وإرادة وعزيمة.
          قد تقول إن هذا ليس ممكنًا، فأمثال يو يو ما وبيتهوفن وموتسارت استطاعوا أن يجمعوا حولهم جمهورًا من سن الرابعة وإن هناك من يولدون بميزات خاصة.
          ولكن شينك لا يوافق على هذه المقولة ويقوم بدراسة كل حالة من حالات «الأطفال المعجزة» هذه على حدة، ويكشف أن جميعهم من دون استثناء- بدأوا تدريبات كثيرة مكثفة ومنظمة في سن مبكرة جدًا.
          والمحصلة: أن الموهبة عملية منهجية تفاعلية وليست مجرد كيان منفصل في مخ الإنسان. ولا يمكن لأحد أن يبلغ مكانة من العظمة على مستوى العالم إلا إذا كان لديه هذا المزيج من الجينات المحتملة ورغبة عميقة محركة وملزمة في النجاح.
          وبالطبع ما يقوله شينك يثير الكثير من الأسئلة: كيف نشجع أطفالنا على حب شيء؟ وأن يكون لديهم الالتزام والإصرارعلى النجاح؟ وكيف نعرض أطفالنا للكمّ الصحيح من التحديات في الوقت الصحيح؟
          يقول ديفيد شينك في حوار حول كتابه «العبقري بداخلنا جميعًا»، والذي يهُز إسطورة «الطفل المعجزة» من جذورها بل ويضع أمامنا حقائق أخرى جديدة تُطالب بوضع مفهوم جديد للذكاء، إن الضغط على ابنك في تدريبات مجهدة ليصبح بطل العالم في الشطرنج في سن 11 سنة لن يجعله طفلاً سعيدًا أو حتى ناجحًا على المدى الطويل.
          يأمل شينك أن تصل هذه الرسالة إلى كل الآباء والأمهات: إن تحقيق العظمة عملية منهجية تفاعلية على المدى البعيد، فلا تستعجل أو تشعر بأنك فشلت إذا ما لم يظهر طفلك في سن معينة تفوقًا بشكل ملحوظ.
          وشينك، الذي كان طفلاً عازفًا على آلة الفيولينه، يقول عن كتابه إنه ليس كتابًا علميًا بالمعني المتعارف عليه ولكنه عرض لتجربة شخصية وأساليب ونظريات علمية أثبتت أن الذكاء هو حالة شديدة المرونة وتبزُغ من تفاعل الجينات مع البيئة. وفي حالته شخصيًا لعبت البيئة دورًا كبيرًا جدًا، ربما أكبر بكثير مما يقره العلماء المُنظرون للذكاء. ويقول شينك في كتابه أيضًا إن الذكاء عملية منهجية أكثر منه كيان منفصل يقبع في البناء المادي لعقل الإنسان: «... الذكاء ليس ثابتا. الذكاء ليس عامًا. الذكاء ليس مجرد شيء، بل عملية ديناميكية الحركة ومنتشرة ومستمرة».
          وشينك لا ينفي تمامًا دور الجينات والقدرات الطبيعية كمكون من مكونات الذكاء الإنساني ولكنه يقول فقط إن هناك غلُوًا في حجم مشاركاتهم في الذكاء. فشيء معقد ومركب مثل الذكاء الإنساني لا يمكن إرجاعه فقط إلى العمليات متناهية الصغر داخل الخلايا. بل إنه يجد أن العمل الجاد والانضباط والتضحية بالذات تكاد تكون القالب الذي تبنى عليه قصص العبقرية.
          ومن بين كل قصص العبقرية يعطي شينك مثالا بقصة حياة الموسيقار موتسارت، الذي كثيرًا ما يقال إنه مثال للطفل المعجزة الذي ولد بموهبة فطرية، ويقول شينك إنه ولد معرضًا لبيئة موسيقية محفزة بشكل غير عادي ربما من اللحظة الأولى لميلاده، ولذلك فإنجازاته الرائعة جاءت في أقل تقدير بسبب البيئة المحيطة به وفي معظمها للإخلاص الشديد والمثابرة اللذين أبداهما للمهنة التي اختارها.
          ويضيف شينك: إنه من النادر أن يكبر الأطفال الذين لقبوا بالموهوبين والعباقرة وهم صغار ليكملوا طريق الموهبة وهم كبار.
          يقول شينك إنه جاء من أسرة موسيقية ولكنه لم يبد أي اهتمام بالموسيقى سوى في الصف الرابع عندما قررت مدرسة الموسيقى المتحمسة أن تقيس كبر حجم أيادي الطلاب لتقرر ما الآلة الوترية التي يمكن أن يلعبوها وجاء قياس يده ليضعه أمام آلة الفيولينه.
         «عملت بجد شديد في التمرين وأصبحت متميزًا جدًا في صفي ومن خلال هذه التجربة اكتشفت أنني حصدت نتاج الجهد الذي بذلته في التمرين بالضبط وليس أكثر أو أقل، لو أنني وضعت طنًا لحصدت طنًا ولو أنني أعطيت المزيد لربما حصدت المزيد، فهو ليس فقط حجم التمرين ولكن الكيفية أيضا، وإذا ما كنت مثابرًا على النجاح وأيضًا كنت مصرًا على تحويل أي فشل لنجاح بدلاً من الإحساس بالإحباط».
          ويضيف: إنه لا شيء يمكن أن يفعله الأب أو الأم ليحفز ابنه أو ابنته على حب شيء والإخلاص له أو المثابرة والإصرار على النجاح فيه، فمثل هذه المشاعر تأتي من داخل الإنسان. يمكن فقط أن نوجههم للتعلم بذكاء وكيفية أداء بعض التدريبات التي ستجعلهم يكتسبون المهارات بسرعة في بعض الأشياء مثل تعلم البيانو، ولكننا لن نستطيع أن نخلق بداخلهم هذه القوة المحفزة.
          من بين القيم الأساسية التي نرغب جميعًا في غرزها في داخل أطفالنا إذا ما أصبحوا عباقرة في شيء أو طموحين لتحقيق شيء، هي فكرة المثابرة والإصرار والعمل المنضبط والاجتهاد وتحويل الفشل إلى نجاح إيجابي. وأن يفهموا أن المهارات الجيدة تحتاج لوقت طويل لتطويرها وعادة ما تتم ببطء.
          من بين الأشياء المفيدة في الكتاب أنه يدعو الآباء إلى الصبر مع أبنائهم، فكون الطفل لم يظهر تميزًا وهو في الصف الأول أو الرابع أو حتى الخامس لا يعني أنه لا يتمتع باحتمالات وإمكانيات خارقة في شيء ما ولكن يعني أنه لم يكتشف هذا الدافع الرئيسي بعد.
          والشيء نفسه يمكن قوله للآباء فلست مطالبًا بأن تكون الأب أو الأم المثاليين المُلهمين طوال الوقت، أنت فقط مطالب بأن ترعى وتربي وأن تحاول أن تجد فرصة أو لحظة مناسبة يكون فيها طفلك منفتحًا للإلهام والتحدي، لتغرز بداخله هذه البذرة التي ستدفعه للأمام لتحقيق طموحاته.
          كلها قد تكون مجرد أفكار في المطلق، ولكن شينك يقول إنه من خلال التجارب العلمية، ومن خلال التجربة الشخصية أيضًا، اكتشف أن مثل هذه الأفكار ترسخ في الشخصية ويكون لها تأثير جيد على مر السنين.
          فالأمر ليس وكأن المهم بالنسبة لنا كآباء أن يصبح أولادنا شخصيات مهمة في المجتمع أو رؤساء جمهورية، فنحن نرغب أولاً وقبل كل شيء في أن يكون لديهم أحلامهم الكبيرة والطموحة وآمالهم في الحياة وأن يستمتعوا بحب الحياة والعيش فيها.
          والهدف الأساسي من الكتاب أنه لا يوجد حدود لما يمكن أن يحققه الإنسان وهو هدف ممتع ومثير، لأنه يمكن تطبيقه على أي شخص وفي أي سن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق