«المدنية في وجه من وجوهها
هي رقة المعاملة».. هذه المقولة التي استهل بها ويل ديورانت كتابه «قصة الحضارة»،
تُعلِمنا بكيفية انتقال أبناء الطبيعة للحياة المدنية محملين بكثير من زخرف
التعامل، وكيف قادتهم محاكاة الطبيعة للبدء في ولوج عالم الصناعة بثقة...
وقاموا باختراع كل ما
يحتاجون إليه، فبعد مراقبة العنكبوت، نسجوا من ألياف النبات ملابسهم وحبالهم
وسلالهم، صنعوا من الأحجار كل ما احتاجوا إليه من قدور وأسلحة ومخارز، حاكوا بها
ملابسهم من جلود الحيوانات التي اصطادوها، وعندما ضنت السماء بالمطر، لسبب غامض لم
يتوقفوا لمعرفته كثيراً، كان لابد من البحث عن بيئة أكثر ملاءمة، فنزحوا بحثاً عن
مجاري الأنهار، كما حدث في مصر، وهناك، لم تمنحهم الطبيعة أمنها الغذائي فقط، بل
أطلقت لمخيلتهم عنان الابتكار.
كان الطين على ضفتي النهر
من الليونة لتنغرز قدم وتشكل أول إناء تجمعت فيه المياه بالمصادفة، ولأنهم كانوا
بحاجة إلى شيء لم يكن مسمى بعد، لجلب المياه إلى أماكن السكنى، ألهمهم تجويف القدم
في الطين فكرة صناعة قدور، واخترعوا لتشكيلها - بعد أن تجاوزت الصناعة مرحلة
اليدوية - عجلة عبارة عن قرص خشبي تشكل عليه قطع الطين بيديه أثناء دورانها، تحكم
الفخراني في سرعتها أو بطئها بقدمه من الأسفل. استعانوا بالشمس لتجفيفها قبل
استخدامها، وفي وقت لاحق، أدركوا أن النار تحيل منتجهم من الأواني الطينية إلى
مادة أكثر صلابة أطلقوا عليها اسم الفخار.
هكذا اجتمعت عناصر الطبيعة
الأربعة لتشكل أول عمل إنساني يخرج من الطين والماء والهواء والنار! منذ ذاك الحين
استطاعت المرأة أن تزين مائدتها بالقدور، لا تتمتع معها برفاهية استخدام الأواني
فقط، بل تستمتع بمذاق الطعام المطهو بداخلها أيضاً، ولأنها مادة رخيصة ومتوافرة
وطيعة في الوقت نفسه، استنبط العقل البشري منها الكثير من الاستخدامات، أهمها
الآجر الذي بنى به بيوته المقببة ومقابره. لكن أحداً في ذاك العصر البعيد لم يتصور
أن اكتشاف مواد أخرى سيجعل من المادة الأولى نسياً منسيا، على الرغم من أهميتها،
وهنا سأحاول أن أعيد للفخار بعضاً من أهميته باستعراض بعض الاستخدامات التي من
الممكن أن نستفيد منه فيها:
الطبخ في
الأواني الفخارية (الطواجن)
لا يعرف الكثيرون أن الطبخ
في الأواني الفخارية يجنب جسم الإنسان الكثير من ترسب المعادن فيه نتيجة استخدام
أدوات مصنعة من خامات أخرى، فالطبخ في قدور مصنعة من الألمنيوم يعمل – على المدى
البعيد - على ترسيب الألمنيوم في جسم الإنسان مع الوقت، وهذا المعدن مسئول عن
الإصابة بداء الزهايمر، وخاصة أن الألمنيوم يتفاعل مع بعض الخضراوات كالطماطم
والليمون، أما الأواني النحاسية فخطورتها تكمن في تأكسد النحاس وتكون الطبقة
الخضراء السامة واختلاطها بالطعام. ثمة أوان معدنية مجلفنة، كالصاج المطلي بالمينا
والتيفال، وهي لا تشكل خطراً على الصحة، إلا أنها مكلفة جداً، وحتى إذا تمتعت
بمختلف أنواعها بالديمومة واللمسة الجمالية والتقنية الفنية العالية فهي في حال
تقشر الطبقة المبطنة للأواني، تصبح خطراً على سلامة وصحة الإنسان. اللافت للنظر أن
استخدام القدور الفخارية في إعداد الطعام مازال مستمراً في بعض القرى والنجوع
البعيدة، كمواجير العجين أو تلك المستخدمة في تحويل اللبن إلى رائِب، قلل ومزاير
تبريد المياه، وصوامع تخزين الغلال، ولم يكن استمرار استخدامهم للفخار هناك بسبب
درايتهم بفوائده الصحية، بل لتوافره ورخص ثمنه. وظهرت صناعة الطواجن الشهيرة في
وقت مبكر ومازالت تستخدم في كثير من المناطق خاصة المغرب وتونس، حتى أن هذا
الطاجن، ثبّت اسمه بـ «الطاجين»، وقد أصبح وصفاً لاسم كل الوجبات التقليدية
التي تجهز فيه.
الفخار كوحدات للديكور
من الممكن ألا يقتصر الفخار
على استخداماته الكلاسيكية، وبقليل من الإعلان قد يلقى رواجاً، لقد استطاع خبراء
الديكور توظيفه كوحدات جمالية بسيطة وجميلة في آن، بعد إضافة رسومات على أسطحه
الخارجية حولتها من مجرد قدور مصمتة إلى تحف تزين المكان، فاستخدم كنوافير على
هيئة جرار تسكب المياه من واحدة إلى أخرى في ركن الحديقة، بالإبقاء على هيئتها
ولونها الطبيعيين. وبعمل ثقوب بالقدور، وإسقاط مصباح موصل بسلك كهربي داخلها،
تتحول إلى وحدات إضاءة جذابة، ترشح الضوء وتلائم الأماكن المفتوحة كالشرفات ومداخل
البيوت، وتتحمل الطبيعة بحرِّها أو بردها أو غبارها، وتوافق ذوق الكثيرين ممن
يميلون بأذواقهم إلى المواد الطبيعية.
الأصص الفخارية
وتربية النباتات
تضفي النباتات على أركان المنزل حميمية وسكينة لا غبار
عليهما، وهي من أجمل عناصر الديكور، لا يجنح العقل إذا وثق في قدرتها على امتصاص
التوتر اليومي الناتج من ضغوط الحياة، لكن استمرار نموها لا يعني فقط سقايتها
وتوفير الضوء الكافي لأوراقها، بل يفضل لاستمرارها متمتعة بالصحة استخدام الأصص
الفخارية لما تتمتع به من مميزات خلاف مظهرها واتساقه مع الطبيعة، ذلك أن الفخار
مادة مسامية تساعد على التخلص من مياه الري الزائدة والتبادل الغازي إضافة إلى
تهوية التربة مما ينعش النبات ويبقيه أكثر حيوية واخضراراً، ويجعلها متمتعة بصحة
وجمال وبساطة تهديها لكل من يقترب منها.
تابعونا على الفيس بوك
مواضيع
تهم الطلاب والمعلمين والأهالي
حكايات
معبرة وقصص للأطفال
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق