الخرس الاختياري حالة
مرضية نفسية يعرفها أكثر أطباء النفس المختصين بالأطفال. يشخصونها على أنها الرفض
الكامل للكلام خارج البيت، أو في غير محيط الأسرة أو الأقرباء.
تعد حالة الخرس
الاختياري من حالات الاضطراب العاطفي والانفعالي، وهي من أهم خصائص الأطفال الذين
يصابون بالخجل والحساسية الفائقة، وعدم القدرة على إقامة علاقات عادية مع الآخرين
سواء كانوا أطفالا أم كبارا، ويظل العلاج يعتمد على التجربة والتقويم السلوكي
أساسا. وفي الحالة التالية نوضح من خلال الواقع أبعاد هذا الاضطراب النفسي:
كان عمره يقترب من الثانية عشرة، نحيلا،
أبيض البشرة، غائر العينين، كان يرقد على ظهره فوق سريره مستلقيا في هدوء مرضي،
بجانبه جلست أخته تتشح بالسواد، يعيش بالمحاليل المغذية عن طريق الوريد، كان شاحبا
شحوبا خاصا وغريبا، وكان أيضا يرفض الكلام.
جلس الطبيب النفسي على الكرسي المقابل له
في غرفته بالمستشفى العام، قسم الأطفال، أمسك بالملف وقرأه بسرعة حتى تمكن من
تكوين فكرة عن - الولد، المرض - التاريخ المرضي. كانت تلك هي المرة الثانية
والثلاثين.. نعم.. الثانية والثلاثون التي يدخل فيها إلى طوارئ الأطفال، ومنها إلى
القسم الداخلي بالمستشفى بعد إصابته بالقيء المستمر الذي أدى في النهاية إلى تمزق
جدار المعدة، الأمر الذي وضح وتأكد بالمنظار، والذي أدى إلى إدخال عقار (الزنتاك)
في المحلول لكي يساعد على التحام أنسجة المعدة الممزقة. بدأ الطبيب يسأل الأخت عن
التاريخ المرضي فقالت: إن الولد عاود طبيب الصحة المدرسية منذ حوالي عامين، ومنذ
عام كان الطبيب النفسي في المستشفى العام قد شخص مرضه بأنه حالة "خرس
اختياري" و"اكتئاب نفسي" ووصف له عقارا مضادا للاكتئاب، بعدئذ حول
الولد مرة أخرى إلى الطبيب النفسي وشخص على أنه يعاني اضطرابا نفسيا جسديا، ووقتها
وصف له عقارا مطمئنا آخر مع جلسات للعلاج الأسري والعلاج النفسي الفردي بالحوار.
وضع الطبيب النفسي يده، أو كاد، على العوامل الاجتماعية الأساسية الضاغطة على
الولد، والتي لها باع أكثر من غيرها في تشكيل أساسيات المرض، لقد فقد الولد والده
بالوفاة منذ أن كان عمره ثلاث سنوات، وبعدها قام باقي أفراد الأسرة بتكثيف جرعات
حبهم للولد بشدة مما أدى إلى إرباكه عاطفيا، بل، وربما إفساده نفسيا. فلقد صار
الولد معتمدا على الآخرين في كل شيء تقريبا، إلى درجة عجز فيها عن أداء أبسط
الأشياء التي كان يقوم بها عادة من هم أصغر منه في السن بمراحل.
كانت الأم مريضة (بالشيزوفرينيا)، أو
(فصام العقل) الذي من علاماته وأعراضه: الهلوسات السمعية: أي أن تسمع المريضة
أصوات أناس وهي بمفردها، كما تختل وظائف التفكير والإدراك، وتفقد ترابط الشخصية
والعزيمة، تنزوي وتهمل في نفسها، وكانت الأخت تعاني مرض القولون العصبي، والأخت
الأخرى تشكومن الصداع النصفي، كانت الأسرة تكاد أن ينطبق عليها اصطلاح (الأسرة
العصابية)، أي أسرة لها صفات التوتر واستخدام الدفاعات والحيل العقلية المريضة
للدفاع عن ذاتها.
دخلت إلى غرفة الولد طبيبة أطفال حديثة
التخرج سألت الطبيب النفسي:
- مرض الأم العقلي (الانفصام) لم يظهر إلا
من فترة، فهل يا ترى أثرت شخصيتها في تربيتها لابنها ؟!.
ابتسم الطبيب النفسي وقال موضحا:
- نعم المرضى بالشيزوفرينيا أي الفصام
وليس - الانفصام - كما قد ذكرت، تكون لديهم نواة قبل ظهور أعراض المرض، وفي حالة
الأم هنا كانت - كما قال أولادها - قلقة أكثر من اللازم عليهم، معادية لهم أحيانا،
مما خلق جوا من التضاد الغريب في المشاعر، كما أنها كانت تتلقى رسائل وإشارات
متناقضة مع الواقع وغير متوافقة معه، كما أنها كانت بحركتها وسلوكها وتصرفاتها غير
متصالحة مع ذاتها وغير قادرة على التناغم مع الآخرين.
هنا تدخلت أخت الولد وكانت تدرس في جامعة
عاصمة عربية معروفة:
- الشخصية مصطلح هلامي، لم أفهم شيئا مما
درسناه عنها في علم النفس، ترى هل للشخصية - شخصية الإنسان - جذور بيولوجية
(حيوية).. يعني ؟!
أعجب الطبيب النفسي بالسؤال، حاول قبل أن
يجيب أن يحفز الولد على الكلام، أن يشجعه، أو أن ينبهه، أو أن يستثيره، لكن كل
محاولاته باءت بالفشل:
- نعم هناك جذور بيولوجية لشخصية كل منا
تتكون من ثلاثة عناصر رئيسية: الوراثة وهي بشكل عام الجينات التي تحمل الصفات
الوراثية وتأثيرات الأبوين في الشخصية.
سألت طبيبة الأطفال:
- ما معنى الوراثة بالتحديد ؟!
قال الطبيب النفسي:
- معناها الوراثة بشكلها الشمولي: وراثة
الشكل والسلوك، العواطف، طريقة المشي، حتى البخل والكرم والاهتمامات. أما الجينات
فهي (المورثات)، العوامل الخاصة التي يحملها كل إنسان حتى من سابع جد وبها الصفات
المرضية، والصحية، القوية والضعيفة، النقاط المحددة لكل شيء.
أما تأثير الوالدين في الشخصية فيتحدد
داخل رحم الأم وهي تحمل الإنسان منذ بدايته كنطفة وهو ينمو ليكون جنينا، بجانب كل
العوامل البيئية المحيطة مثل التربية، الحب، التعاطف، الاهتمام، والرعاية.
تململ الولد في سريره، حرك يده فتحركت
الإبرة بما تحمل من محاليل مغذية، هدأ الطبيب من روعه، كاد الولد يبتسم لكنه أشاح
بوجهه بسرعة، هنا تدخلت أخته وسألت بالتحديد:
- لكن لماذا يتقيأ أخي بهذا الشكل المفزع،
وكأنه يتقيأ ما بداخله من طعام ومشاعر مريضة ؟ كأنه يلفظ ما هو في العمق ؟
هز الطبيب النفسي رأسه معقبا:
- نعم إنها لغة الجسد في التعبير عن
النفس، وفي نفس الوقت مرض واضطراب شديد يصعب تشخيصه في مرحلة الطفولة، ويحدث أساسا
لأن الصراعات النفسية لا يتحملها الطفل فتتحول إلى أعراض جسدية تظهر هنا في صورة
شديدة كالقي. تدخلت طبيبة الأطفال وقالت:
- لكن القي شديد جدا إلى درجة النزيف من
المعدة وتمزق جدارها؟
رد الطبيب النفسي مجيبا:
- نعم برغم قسوة الأعراض على المستوى
العضوي، فإنها تحمي العقل الواعي من الألم النفسي الحاد، وكأنها تشكل صمام أمان ضد
الانهيار التام أو الجنون الحقيقي، والعلاج لا يكون إلا بحل الصراعات الكامنة داخل
النفس.
هنا سألت الأخت في لهفة عن تصور الطبيب
لمستقبل الولد، فقال إنه بصراحة غير متفائل، لاعتبارات كثيرة أهمها التكوين النفسي
الفصامي للولد، مرض الأم العقلي، عصابية الأسرة ككل، وتدهو ر تحصيله الأكاديمي
بجانب أنه ما زال ينعي والده الذي فقده منذ زمن على المستوى اللا شعوري وبلغه
جسدية.
اضطراب نادر الحدوث
التشخيص الأولي هنا هو ما يعرف عادة في طب
الأطفال النفسي بالخرس الاختياري، الذي من أهم علاماته الطبية عدم القدرة على
الكلام، وعدم القدرة على التخاطب مع الآخرين في البيئة المحيطة، وهو يعد اضطرابا
نادر الحدوث، أهم أعراضه رفض الطفل الكلام في المدرسة أو التحدث مع الآخرين خارج
محيط البيت، هذا على الرغم من أنه يتحدث بشكل طبيعي تماما مع أقرانه وأخواته في
البيت، وربما مع أحد الوالدين، وفي حالة الولد الموصوفة هنا كان يحدث العكس، فلقد
كان يتحدث بطلاقة في المدرسة، بينما يمتنع عن الكلام في البيت، ربما لرفضه للبيت
وجوه العام، وكنوع من الاعتراض على شكله الحالي، وخلوه من الأب الذي توفي منذ فترة
طويلة ولم يحل محله أحد، لا في الشخصية ولا في الحضور ولا في العطاء. وكلمة الخرس
هنا غير دقيقة لأن الطفل يرفض الكلام في حين أنه بالفعل قادر عليه، وعادة ما يكون
متوسط الذكاء، مهتما بالتواصل مع الآخرين لكنه في نفس الوقت غير قادر على تحقيق
ذلك لوجود "عطل نفسي"، لهذا فهو قد يعبر عن نفسه بالإيماءة، الحركة
الصامتة، الرسم، هز الرأس، الهمس، أو حتى الكتابة أحيانا.
وعادة ما يبدأ المرض في سن 3 - 8 سنوات،
وفي حالات نادرة مثل حالة الولد المشروحة هنا تظهر في سن 12 سنة، ولا يظهر إلى حيز
اهتمام الأهل إلا بعد دخول الطفل المدرسة، مع هذا نجد مظاهر التوتر والقلق
والعدوانية، الاعتراض على البيئة والآخرين مع عدم قدرة على التأقلم مع الواقع
المعيش.
الاضطراب الثاني الظاهر هنا في حالة الولد
هو اضطراب الشخصية الفصامية، هو أمر صعب التحديد والتشخيص، خاصة في مرحلة الطفولة،
لكن إذا تأملنا ما تعنيه الشخصية الفصامية، لوجدنا أنها حساسة وفي نفس الوقت جامدة
عاطفيا، ودائما ما يكون الشخص عنيدا حساسا كتوما كثير الشك في الآخرين، وغالبا ما
يصفه الأهل بأنه "ملاك". وعلى الرغم من أهمية ودلالة مرض الأم بالفصام
فإنه ليس بالضرورة أن يكون أحد الوالدين مصابا بالشيزوفرينيا، حتى يكون أحد
الأبناء ذا شخصية فصامية، والعكس أيضا صحيح، المهم هنا توضيح أن ما يورث هو
الاستعداد للإصابة، كما أنه من المعروف أيضا أن اضطرابات الفصام في الكبار والصغار
غالبا - إن لم يكن دائما - ما تكون مصاحبة باضطرابات في الكلام والقدرة على
التعبير والتواصل مع الآخرين.
أما التشخيص الثالث - الذي ذكر هنا في هذه
الحالة - فهو الاكتئاب، وهو في مرحلة الطفولة يتخذ له مظاهر جسمانية بحتة مثلما
شرحنا سابقا، غير أنه في حالتنا هنا يتميز بما يسمى حالة الحزن المرضي لفقدان
الوالد ونعيه لسنوات، وللاكتئاب أعراض أخرى غير جسمانية مثل: اكتئاب المزاج.
اضمحلال الرغبة أو فقدانها للاستمتاع بأي من النشاطات الحياتية المعتادة. اضطرابات
النوم. تغيرات في وزن الجسم. فقدان الشهية. صعوبة التركيز. وعدم القدرة على إبداء
الرأي أو اتخاذ القرارات بسهو لة. وأحيانا ما تكون هناك أفكار انتحارية مع توتر
نفسي جسدي عام، والإحساس بالإرهاق والتعب دون بذل أي مجهو د مع إحساس عام بعدم
القيمة والذنب دونما سبب واضح.
الحل والعلاج
الحل هنا يواجه بمشكلة صعوبة فهم الطفل
نفسيا، لأن الطفل عادة ما يكون غير قادر على التعبير عما يدور داخل أعماقه، وإذا
أخذ أطباء وعلماء النفس وأسرة الطفل المريض سلوكه كمقياس، فإنه يصعب الاعتماد على
ذلك بشكل نهائي، كما أن واقع الطفل النفسي عادة ما يمر بمراحل تتداخل في بعضها
البعض، وتنمو بسرعة، ومن ثم فإن الإلمام بها وتقييمها أمر غاية في الصعوبة، في مثل
تلك الحالات تكون (المطمئنات) ذات دور مهم جدا نظرا لأنها تعمل على تعديل الخلل
الكيماوي العصبي الحادث، كذلك فإن عقارا مثل (الترييزول) المضاد للاكتئاب له صفة
مسكنة لجدار الجهاز الهضمي ككل. كما أن العلاج الأسري، بمعنى جمع أفراد الأسرة
المقيمين معا ومناقشتهم في أمورهم الدنيوية، وإزاحة الستار عما يعتمل داخل صدورهم
مع ضرورة متابعتهم في البيت بواسطة أخصائية اجتماعية يعد عاملا أساسيا في العلاج.
تابعونا على الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب والمعلمين والأهالي
حكايات معبرة وقصص للأطفال
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق