الأمراض النفسية
هناك تقدم ملحوظ في مجال محاربة الأمراض المُعْدِية خلال العقود الخمسة المُنْصَرِمة، إلّا أن هناك ازدياد في نسبة الأمراض المزمنة كأمراض القلب والسكري وهذا عبء على الصحة العامة، إذ تُسَبِّبُ مجتمعة في حوالي ثلثي الوفيات التي حدثت حول العالم. أمّا النفقات المستقبلية الهائلة ستنجم عن الأمراض النفسية.
الاستجابة الواهنة... لماذا؟
على الرغم
من هذه الصورة
القاتمة، فلم يُحدِث
التقرير أي تأثير
يذكر في سياسات
الصحة العامة. ويرجع ذلك
جزئياً إلى العجز
عن تغيير الانطباعات
الراسخة والمؤذية عندما
يتعلق الأمر بالأمراض
النفسية. فكثير منّا
ينظر إلى المرض
النفسي على أنه
مشكلةُ فردية بامتياز،
وأنّه لا يمتُّ
بأي صلة للسياسات
الصحية المتّبَعة. ويعمد المسؤولون
في البلدان ذات
الدخل المنخفض إلى
إظهار الأمر على
أنه مشكلة أغنياء
«العالم الأول»، وبناءً
على هذه الرؤية
يصبح الاهتمام بالصحة
النفسية رفاهيةً لا
يقدر على تحمّلها
من يعيش في
إسار الفقر.
لكن الواقع
يدل على أنّ
الأمراض النفسية تؤثر
في جميع مناحي
الحياة وفي مختلف
البلدان بغض النظر
عن مستوياتها من
الثراء والتطور، ولذلك
لابد من إحداثُ
تغيير جدي في
طريقة تفكيرنا عند
الحديث عن «أمراض العقل».
ويعود الاستخفاف
بالأمراض النفسية وكلفتها
إلى أسباب عدة،
فمن حيث المبدأ،
يصوّرها المسؤولون الصحيون
كما لو كانت
تختلف جذرياً عن
غيرها من الأمراض،
لكنها في حقيقة
الأمر نتاج اختلالات
عضوية في الدماغ،
ومن هذا المنظور،
فهي لا تختلف
عن غيرها من
الأمراض المزمنة.
كذلك يخفق
معظمنا في إدراك
مدى شيوع الأمراض
النفسية نظراً لرغبة
أصحابها في إخفائها. ويُقدرُ قسم
الصحة والخدمات الإنسانية
في الولايات المتحدة
أن قريباً من
44 مليون أمريكي
ممن تجاوزوا الثامنة
عشرة من العمر
قد عانوا في
عام 2012
نوعاً من الاضطرابات
النفسية، وأنّ ما
يناهز عشرة ملايين
من هؤلاء يعانون
أمراضاً نفسية حادة،
مثل الاضطراب العقلي
الذي نسمّيه «الذُهان» Psychosis
وعلى الرغم
من توافر الفرص
لمعالجة حالاتٍ كهذه،
فإن عديداً من
المرضى يسوّفون ولا
يبحثون عن العلاج
إلا بعد أن
تصبح حالاتهم مزمنة
وبعد فترة تَلَكّؤٍ
قد تزيد على
10 سنوات، كما
أظهرت دراسة حديثة.
العبء الثقيل
الاختلالات النفسية
معيقة أكثر بكثير
مما يُعتقد، فهي
تضعف قدرة المصاب
على الدراسة والعمل
والاهتمام بالذات وبناء
العلاقات مع الآخرين.
وأشار تقرير
صادر عن منظمة
الصحة العالمية في
عام 2012
إلى أنّ الأمراض
النفسية والاختلالات السلوكية
تسببت في حوالي
26 في المائة
من الوقت الضائع
الناجم عن الإعاقة،
متجاوزة بذلك أي
نوع آخر من
الأمراض. ومما يُعظّمُ
من تأثير الأمراض
النفسية، أنّ اضطرابات
كهذه تصيبُ اليافعين
أكثر من غيرهم،
بخلاف غيرها من
الأمراض المزمنة، كأمراض
القلب والسكري، التي
لا تظهر غالباً
إلّا في سنٍ
متأخرة.
فمثلاً، تظهر
الإشارات الأولى لمرض
الفِصام Schizophrenia
عادةً بين الثامنة
عشرة والثالثة والعشرين
من العمر، أمّا
أعراض مرض التوحد
Autism فتظهر قبل
سن الثالثة. هذا الظهور
المبكر للأعراض يفسر
لِمَ تُعَدُّ الأمراض
النفسية أكبر مصدر
للإعاقةٍ على الإطلاق،
خاصة في تلك
المرحلة الحساسة من
العمر، التي يأخذ
فيها الفرد بالاعتماد
على الذات في
مجال العمل وتكوين
الأسرة.
أضف إلى
ذلك أنّ الأمراض
النفسية ليست مجرد
إعاقات، بل قد
تكون مميتةً، فهي
تلعبُ دوراً في
90 بـ المائة
من حالات الانتحار
حوالي 800
ألف حالة على
مستوى العالم كل
عام، ومما يزيد
الطين بلّةً أن
معظمها يحدث في
بلدان العالم الأقلّ
ثراءً. وفوق هذا
وذاك، تعمل الأمراض
النفسية أيضاً كمدخل
للعديد من الأمراض
المُكْلِفة،
فهي تعزز فرص
الإصابة بالإيدز وأمراض
القلب وغيرها، وتزيد
من احتمال تعرض
المرء للتشرد والفقر،
ويمثل هذا بمجموعهِ
عبئاً إضافياً يُلقى
على كاهل المجتمع.
التقتير في غير موضعه
على الرغم
من هذه الكلفة
الهائلة فلا تلقى
الأمراض النفسية إلّا
القليل من الانتباه
والموارد، إذ ينفق
العالم سنوياً على
معالجتها ما يقل
عن دولارين للشخص
الواحد. ويصل هذا
المبلغ إلى أقل
من 25
سنتاً للفرد الواحد
في البلدان ذات
الدخل المنخفض.
كذلك فإن
ما يُنفق عليها
لا يزيد على
3 في المائة
مما يصرف على
الرعاية الصحية بجملتها،
على الرغم من
أنها تتسبب في
ما يزيد على
20 في المائة
من مجمل أعباء
هذه الرعاية. وبالطبع، تزداد
المشكلةُ سوءاً كلما
كانت الدولة أكثرُ
فقراً، إذ تشير
تقديرات منظمة الصحة
العالمية إلى حرمان
ما يزيد على
85 في
المائة من هؤلاء
المرضى في بلدان
العالم الأقل ثراءً
من العلاج. وحتى البلدان
الغنية فإنّها لا
تخصص الموارد الكافية
للإنفاق على معالجة
هذه الأمراض مقارنةً
بالكلفة الكبيرة التي
تَفرضها. فمثلاً، تتسبب
الأمراض النفسية في
23 بـ المائة
من عبء المرض
في المملكة المتحدة.
وعلى الرغم
من ذلك فإن
مركز خدمات الصحة
الوطني يُخصص لها
13 في المائة
من إنفاقه الكلي
فحسب. وبسبب انعدام
البصيرة هذا يقع
معظم كلفة العناية
بالأمراض النفسية على
عاتق قطاعات خارج
مجال الرعاية الصحية،
وينتهي الأمر بمعظم
البلدان إلى أن
تنفق الكثير على
معالجة الآثار المترتبة
على المرض كالبطالة
والتشرد بدلاً من
معالجة المسألة من
جذورها، وقد يفسر
هذا وجود الأمراض
النفسية عند ما
يقرب من ثلث
المشردين في الولايات
المتحدة ولدى أكثر
من 20
في المائة من
نزلاء سجونها.
نهج جديد
يتمتع سكان
البلدان الغنية بوجود
عدد وافر نسبياً
من المختصين في
مجال الصحة النفسية،
فهناك تسعة أطباء
لكل 100
ألف شخص، إلا
أن ما يقرب
من نصف سكان
العالم يعيشون في
بلدان لا يوجد
فيها إلّا طبيب
واحد لكل 200 ألف شخص،
بل قد تصل
هذه النسبة إلى
طبيب واحد فقط
لكل مليون شخص
كما في بعض
الدول الإفريقية، وليس
من المرجح لهذه
الأرقام أن تتحسن
كثيراً في المدى
القصير، إلّا أنّ
اتجاهاً واعداً في
المعالجة يُعرف بنهج
«تقاسم المهام»
قد بعث بعض
الأمل في الآونة
الأخيرة.
ويتلخص هذا
النهج في أنْ
يقوم خبراء في
العلاج النفسي بتدريب
عددٍ من الاختصاصيين
الاجتماعيين
والممرضين وأفراد عائلة
المريض لتقديم الرعاية
له بدلاً من
الطبيب النفسي. وقد ألمحت
الدراسات العلمية إلى
سلامة هذا النهج
وفاعليته حتى في
الأماكن التي لا
يوجد فيها إلا
القليل من موارد
الصحة النفسية.
ففي دراسة
نُشرَت في مجلة
نيو إنكلاند الطبية
NEJM عام
2013 وصفت تجربة
علمية أجريت في
الكونغو على 400
امرأة عانين من
الاغتصاب وظهرت عليهن
عوارض حالة كرب
ما بعد الصدمة PTSD
والاكتئاب والقلق. وكانت النتائج
مدهشة، فبعد ستة
أشهر تحسنت أحوال
90 في
المائة ممن تلقين
العلاج مقارنةً مع
58 في المائة
فقط من اللواتي
لم يتلقينه.
كما أظهرت
دراسة مماثلة أُجْرِيَت
في باكستان نتائج
مقاربة لذلك. تجدر الإشارة
هنا إلى أنّ
التحسن لم يقتصر
على انحسار أعراض
المرض النفسي وحسب،
بل امتد ليشمل
جوانب الصحة الأخرى،
كما انعكس على
حياتهن الأسرية أيضاً.
وعود التقانة
هناك عقبة
أخرى تقف حائلاً
في طريق النهوض
بالصحة النفسية في
«العالم النامي»
تتجلّى في الاعتقاد
الخاطئ بأنه لا
يمكن مقاربة الأمراض
النفسية بإجراءات بسيطة
وغير مكلفة كتلك
التي أدت إلى
النجاح في صراعنا
مع الأمراض المعدية
التطعيم ضد شلل
الأطفال على سبيل
المثال، لكن الواقع
خلاف ذلك، إذ
توجد الآن علاجات
آمنة وفعالة وبأسعار
رخيصة نسبياً للعديد
من الاضطرابات النفسية
كالقلق والاكتئاب يستطيع
الأطباء العامّون وصفها
للمرضى، مما ينفي
الحاجة إلى المختصين
بالأمراض النفسية في
المراحل الأولى من
المرض. وقد أظهرت
دراسة لمنظمة الصحة
العالمية عام 2012، أن
دورة علاجية بأدوية
كهذه تُكلف ما
يقارب 4
في المائة من
الدخل اليومي للفرد
في كثير من
البلدان الأقل ثراءً. لكنّ أكثر
المقاربات الواعدة قد
ظهرت بفضل التقانة
الحديثة، فمع انتشار
الهاتف المحمول والإنترنت
لم تعد العلاجات
النفسية حكراً على
من يرتادون عيادات
الطبيب النفسي، فأكثر
من خمسة مليارات
شخص حول العالم
يمتلكون أجهزة محمولة
تسمح لهم بتلقي
كل جديد في
مجال العلاج النفسي،
ابتداء من الرسائل
النصية التي تقدم
مبادئ المساعدة الذاتية
إلى ألعاب الحاسوب
التي تُعززُ التغيير
الإيجابي في السلوك. وحتى في
الأماكن التي يندر
فيها وجود الهواتف
الذكية، منح انتشار
خدمات الهاتف المحمول
الأطباءَ فرصة الوصول
إلى المرضى ومساعدتهم
أكثرَ من ذي
قبل.
خارج الظلال
سيظل التقدم
الفعلي على صعيد
مواجهة المرض النفسي
معتمداً على عدد
من التغييرات البنيوية
لمقاربتنا له. فهناك حاجةُ
ملحة لزيادة الوعي
بمدى المشكلة من
خلال شرح أفضل
لماهية الأمراض النفسية
وكلفتها، وتشجيع الناس
على النظر إليها
بوصفها مشكلة لا
تؤثر على أفراد
معزولين فحسب، بل
على المجتمعات أيضاً. كذلك ينبغي
دمج العناية بالصحة
النفسية في النظام
الصحي الأوسع عبر
تجهيز عدد أكبر
من أطباء الرعاية
الأولية لمعالجة الاضطرابات
النفسية وخلق حوافز
للمختصين بالصحة النفسية
ولممارسي الطب العام
للعمل معاً وبناء
الشراكات، مما يسهل
حصول المرضى على
العلاج المطلوب.
وفي النهاية،
يحتاج المجتمع الدولي
إلى التزام صادق
بتخصيص الموارد اللازمة
لتخفيض العبء العالمي
المتعلق بالأمراض النفسية،
ومع أن هذا
هدف قابل للتحقيق،
إلّا أنّه يتطلبُ
إرادة سياسية وتنسيقاً
بين قطاعات الصحة
والتعليم والخدمات الاجتماعية،
وغيرها. خطوات كهذه
ستأخذ وقتاً طويلاً
لتُحدث تحسناً ملموساً،
ولكن نقل الأمراض
النفسية من عتمة
الظلال إلى مركز
النــــقاش سيسرع من
تحقيقها بلا ريب.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
سلوكيات الأطفال
التي لا يمكن تجاهلها
كيف أجعل ابنتي
المراهقة اجتماعية
علامات التَّوَحُّد
عند الأطفال في عمر سنتين
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس
دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق