ارتفعت أصوات عديدة تنادي بإعادة بعض الوسائل المهجورة
إلى النظم التربوية في المدارس، وكثرت شكاوى المدرسين من تطاول بعض الطلاب، عليهم
وشغب بعضهم في الحصص الدراسية أو تكاسل الكثيرين منهم عن متابعة دروسهم ومذاكرتها
وانشغالهم عنها بأمور أخرى صارفة. وقد أدت هذه العوامل إلى تدني المستوى الدراسي
عند أغلبهم، وعزا كثير من المدرسين، هذه الظواهر اللامسئولة، إلى غياب الرادع الذي
يردع المخالف ويعيده إلى جادة الصواب.
ووجد الكثيرون منهم ضالتهم المنشودة في العقوبة
البدنية الغائبة عملياً والحاضرة فكريا، وأنها الدواء الشافي، الذي سيخفف من حُمى
هذه الظواهر المرضية إن لم يقض عليها تماما، ولكنهم يصطدمون في كل مرة، بالنظم
الحديثة الوافدة المانعة للضرب، فأصبحت غلاً يطوق أعناق المدرسين، وقيداً يشل
حركتهم نحو تحقيق الأهداف المنشودة مع أنها تخالف الأساليب والأنظمة التي كانت
سائدة، وإلى زمن ليس بالبعيد في بلداننا العربية والإسلامية والتي كانت تبيح من
ضمن ما تبيح العقوبة البدنية كوسيلة من وسائل التهذيب والتأديب والتثقيف، ضمن أطر
وشروط محددة، تمنع انطلاقتها نحو التجاوز وتبقيها في دائرة الاعتدال والتوسط، لكي
تأتي بالفائدة المرجوة.
هل يستوي المحسن والمسيء؟
بين
أيدينا عدة مبادئ مستمدة من الشريعة الإسلامية قررها علماء التربية المسلمون،
لتقويم الطلاب سلوكياً وتعليمياً. وهي على الترتيب: النصح والإرشاد بأسلوب مقبول،
وطريقة حسنة لا تأباها النفس أو تملها. ثم الترغيب بالثواب للمحسن، والتهديد
بالعقاب للمسيء، ثم التأديب على انفراد، ثم التقريع على رؤوس الأشهاد، ثم الضرب
آخر الأمر، وكما يقال آخر الدواء الكي، إلا أنهم قيدوا من هذه المبادئ بحدود وشروط
منها أخذ الإذن من الأب أو ولي أمر التلميذ، وأن يكون الضرب في مكان مأمون من
الجسد، وألا يترك آثارا جانبية جسدية، أو عاهات فيما بعد وأن يكون بالدرة على أن
تكون رطبة لينة وأن يكون من ثلاثة إلى عشرة أسواط، لا تزاد على ذلك، إلا بإذن ولي
الأمر، وأن يكون غير مبرح، لأن الغرض منه التهذيب والتأديب، لا الانتقام والتشفي،
واعتبروا المعلم من التلميذ بمنزلة الوالد، فما يفعله الوالد في عقاب ابنه، يفعله
المعلم، لكنهم نفروا من التشديد على المتعلمين، لأن الشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى
ضده، قال ابن خلدون "إن من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك
أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى
الكسل، وحمل على الكذب والحنث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط
الأيدي بالقهر عليه، فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده ألا يستبدوا عليهم
في التأديب" إلى أن يقول "على أنه إذا استحق الضرب فلا ينبغي لمؤدب الصبيان
أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا اليه على ثلاثة أسواط شيئا" لقد سبق ابن خلدون
في اتجاهه هذا علماء التحليل النفسي في عصرنا الحاضر، والذين يقولون بوجود عقدة
نفسية كامنة في اللاشعور تحرك أفعال المرء في المستقبل.
وقد
أرشدوا المعلم إلى التحلي بالرفق مع تلاميذه، إذا اضطر لاستعمال الضرب معهم لأن
الرفق مطلوب في كل الأحوال وهو مع التلاميذ ألزم، والله رفيق يحب الرفق، وما دخل
الرفق في شيء الا زانه، ولا نزع من شيء الا شانه.
ومن
الرفق تعليمهم بالسوية، عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم، حشر
يوم القيامة مع الخائنين. ومن الرفق مراعاة مستويات التلاميذ وقدراتهم وميولهم
ورغباتهم، أي الاهتمام بالفروق الفردية فيما بينهم ما أمكن ومنه العدالة في
العقاب، وعدم التشديد فيه، وألا يبادر إلى العقاب إذا استأهل الطفل ذلك، إنما ينبه
مرة بعد مرة، فإذا لم يستمع لهذا التنبيه، ولم يأخذ بهذا التوجيه لجأ إلى وسائل
التأديب الأخرى، المنصوص عليها. ومنه ـ أي من الرفق ـ الثناء على أفعالهم المحمودة
وذم أفعالهم المكروهة يقول شمس الدين الإنبابي في سياسة الصبيان: "ثم مهما
ظهر منه خلق جميل وفعل محمود، فينبغي أن يكرم عليه، ويجازي عليه بما يفرح به،
ويمدح به بين الناس، لأن الثواب والعقاب تعزيز وتثبيت سلوك طيب، أو تعديل سلوك ضار
غير مقبول عند المتعلم فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة، فينبغي أن يتغافل
عنه، ولا يهتك ستره، فان إظهار ذلك عليه، ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة
فعند ذلك إن عاد ثانياً ينبغي أن يعاقبه سراً ويعظم الأمر فيه، ويقول له إياك أن
تعود بعد ذلك لمثل هذا، فتفتضح بين الناس، ولا يكثر عليه الملامة في كل وقت فإنه
يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح فإذا عاد أدبه بما يليق من توبيخه".
أما
الذي لا يستجيب لوسائل التأديب، ولا ينفع معه الرفق، فينبغي استعمال آخر الدواء
معه وهو الضرب غير المبرح، وعقوبة الضرب ليست مصلحة للتلميذ فحسب، بل رادعة وزاجرة
أيضاً، لأنها ستترك ألما مباشراً في نفس المذنب، فيرتدع، كما أن فيها عظة لغيره من
التلاميذ، والسعيد من وعظ بغيره، ومبدأ الاتعاظ بالعقوبة، مقرر في الإسلام قال
تعالى: وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين.
كما
أن مبدأ الضرب والعقوبة البدنية مقرر في الاسلام وبنص القرآن الكريم قال تعالى: الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله.
وقال:
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا
لهم شهادة أبداً.
وقال:
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا
عليهن سبيلاً.
وجاء
الأمر صريحا عن النبي بضرب الأولاد على تركهم الصلاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً
واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً وفرقوا بينهم في المضاجع. ولذلك أجاز العلماء ضرب
الولد في حالة تركه الصلاة، وفي جميع الحالات التي يحتاج الوالد أو المعلم إليها
في تأديب الأولاد، ولكنهم وضعوا شروطاً ألزموا المعلم بها حتى لا يخرج الضرب من
دائرة التهذيب والاصلاح، إلى دائرة التشفي والانتقام، وأما الوالد فإن رأفته بولده
ستـكون شـفيعة عنده، ومانعة له من الاندفاع وراء غضـبه وإيذاء ولده.
ضربات محددة
قال
الغزالي: "والأصلح للبهيمة الا تخلو عن سوط وكذا الصبي ولكن ذلك لا يدل على
أن المبالغة في الضرب محمودة" ويوضح محمد بن سحنون الفقيه المالكي وإمام عصره
بعد أبيه في المغرب في كتابه "آداب المعلمين" المقصود من حديث ابن عباس
والذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"أشرار أمتي معلمو صبيانهم أقلهم
رحمة لليتيم وأغلظهم على المسكين" بقوله وإنما ذلك لأنه يضربهم إذا غضب وليس
على منافعهم، ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يجاوز بالأدب عشرة" إلى أن
يقول وسمعت مالكاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يضرب أحدكم
أكثر من عشرة أسواط إلا في حد" ثم يورد ابن سحنون بروايته عن يعقوب بن حميد
عن وكيع عن هشام بن أبي عبدالله بن أبي بكر عن النبي قال: "لا يحل لرجل يؤمن
بالله واليوم الآخر أن يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد".
قلت
والمعلمات كالمعلمين في كل ما ذكر، لأن الحكم عام يشمل الذكور والإناث ويكون الضرب
لمن هم في سن العاشرة وما فوقها ويمتنع في حق الذين هم دونها، لأنه المفهوم من
حديث رسول الله، أما قبل سن العاشرة فلا يجوز ضربه لصغر سنه، وما يتبع ذلك من
انعدام مسئوليته، فإذا استأهل التلميذ الضرب، فيجب على المعلم التقيد بالشروط التي
وضعها العلماء عند اللجوء إلى هذه العقوبة الاضطرارية وهي على النحو التالي:
1) ألا يوقع المعلم الضرب إلا على ذنب.
2) أن يوقع الضرب بقدر الاسـتئهال الواجب في
ذلك الخطأ.
3) أن يكون الضـرب من واحدة إلى ثلاثة وأن
يستأذن القائم بأمر الصبي في الزيادة.
4) له أن يزيد على العشر ضربات إذا كان الولد
يناهز الاحـتلام، وكان غـليظ الخلق، لا يريعه وقوع عـشر ضربات عليه.
5) أن يضرب المعلم التلميذ بنفسه، ولا يترك
هذا الأمر لأحد.
6) أن يكون مؤلماً ولا يتعدى إلى التـأثير
المشنع أو الوهن المضر.
7) أن يكون الضرب في الرجلين وليتجنب الوجه
والرأس.
8) أن تكون آلة الضرب الدرة أو الفلقة وأن
يكون عود الدرة رطباً مأموناً. وهناك شرط تاسع ورد على لسانهم ولم يذكروه هنا
وإنني سأثبته لطرافته وهو: إن شـراء الدرة والفـلقة على المعلم وليـس على الصبيان.
المصدر:
1
إقرأ أيضًا
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق