في ذاكرتنا الكثير من الأحداث المؤلمة التي لا نرغب في
تذكّرها، بدءاً من التنمر الذي تعرضنا له في المدرسة، مروراً بالوقوع ضحية الخيانة
أو الطعن من قبل شخص مقرب، وصولاً إلى موت شخص عزيز على قلبنا.
واللافت أن الرغبة في "دفن" هذه الذكريات غير
السارة، هي مسألة مترسخة في الطبيعة الإنسانية، لكن بغض النظر عن عدد السنوات التي
تمرّ والمحاولات الحثيثة للتخلّص من هذه الأحداث المؤلمة، فإن هذه الذكريات يمكن أن
تستمر في مطاردتنا، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى ظهور العديد من الاضطرابات الذهنية،
بما في ذلك القلق المزمن، الرهاب أو اضطراب ما بعد الصدمة.
هل
من الممكن أن ننسى فعلاً الصدمات والتجارب السلبية عن قصد وإلى الأبد، أم أنها سوف
تطفو على السطح مهما حاولنا "طردها" من رأسنا؟
عمل الذاكرة
"العقل أوسع من السماء"،
هذه المقولة للشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون، يمكن أن تكون صحيحة للغاية عندما يتعلق
الأمر بالتعقيدات التي ترافق عملية تخزين الذكريات.
في
الحقيقة، يشكل المخ، أو الدماغ الأمامي، الجزء الأكبر من الدماغ، وهو مغطى بطبقة من
الأنسجة العصبية المعروفة باسم القشرة الدماغية، حيث يتم تخزين الذكريات.
واللافت
أن الدماغ غالباً ما ينسى بعض التفاصيل الموجودة في الذاكرة قصيرة المدى، مثل أرقام
الهواتف، ما لم يكن هناك تكرار مستمر في استخدام هذه الأرقام، أما الذاكرة طويلة المدى
فتحتفظ عادة بالمعلومات لفترات زمنية أطول، مثل تذكر تاريخ ولادة طفلكم، هذا ويكثر
الجدل عما إذا كنّا ننسى شيئاً ما بالفعل أو أن عملية التذكر باتت أكثر صعوبة في أيامنا
هذه.
ماذا عن الصدمة
تحتوي
وظائف الذاكرة طويلة المدى على أنواع مختلفة من الذكريات وطرق عمل مختلفة، على سبيل
المثال، هناك الذاكرة الإجرائية أو ذاكرة المهارات اللاواعية، كمعرفة كيفية ركوب الدراجة،
وهي الخبرة التي تعتمد على التكرار والممارسة في بادئ الأمر، ثم تعمل تلقائياً بعد
ذلك.
وعلى
الرغم من أن العقل قد يخزن تلقائياً تجاربنا في شكل من أشكال الذاكرة، فإن هناك أوقاتاً
يفصل فيها عقلنا عن التخزين، وذلك عند التعرض لتجربة أو حدث مؤلم، وذلك من أجل مصلحتنا
الخاصة.
كيف يتعامل العقل مع الصدمات؟
لماذا
ينسى الناجون من الاعتداء الجنسي التفاصيل؟ العديد من الأشخاص الذين سبق وأن تعرضوا
للاغتصاب أو الاعتداء الجنسي، يزعمون أنه لديهم ذكريات حيّة لبعض الصور والأصوات والروائح
المرتبطة بالاعتداء، حتى لو حدث ذلك قبل عقود، ومع ذلك عندما يُطلب منهم أن يتذكروا
بالضبط في أي وقت من اليوم حدث هذا الاعتداء، وبعض التفاصيل التي غالباً ما تركز عليها
الشرطة لإثبات وقائع الجريمة، فإن هؤلاء الناجين غالباً ما يواجهون صعوبة في سرد ما
حدث لهم بالتفصيل، وبالتالي غالباً ما يناقضون أنفسهم ويغيّرون شهادتهم.
أما
السبب في ذلك فيعود إلى أن ذكريات الأحداث المؤلمة تختلف عن الذكريات اليومية، بحيث
أننا في العادة نقوم بتشفير ما نراه ونسمعه ونشمه ونتذوقه ونحسه جسدياً، ولكن خلال
الأحداث الصادمة تغمر أجسامنا هرمونات التوتر، ما يحثّ الدماغ على التركيز على الوقت
الحاضر على حساب الصورة الأكبر.
هذا
الأمر يبدو منطقياً من منظور تطوّري، فعندما نكون تحت التهديد، من الأفضل أن نركز على
ما نشهده، الأمر الذي يدفعنا إلى القتال أو الهروب أو تجميد ردود الفعل، بدلاً من التركيز
على المعنى الأكبر وإدراكه.
وفي
حال سجّل الدماغ صدمة هائلة، فإنه يمكن أن يحجب تلك الذاكرة في عملية تسمى الانفصال،
أو الانفصال عن الواقع، وذلك في محاولة من الدماغ لحماية نفسه.
وبالتالي
بالطريقة نفسها التي يتعامل بها جهاز المناعة مع الأجسام الغريبة لحماية بقية الجسم،
يمكن أن ينفصل الدماغ عن تجربة ما.
هذا
الانفصال يمكن أن يؤدي إلى عدم وجود صلة في أفكار الشخص و/أو ذاكرته و/أو إحساسه بالهوية،
ومن الشائع للغاية تجربة حالة من حالات الانفصال المعتدل، فعلى سبيل المثال، إذا انغمستم
تماماً في كتاب ما مؤخراً، أو كانت تراودكم أحلام اليقظة في العمل، فهذا يعني أنكم
واجهتم شكلاً شائعاً من أشكال الانفصال الخفيف، في المقابل، هناك شكل حاد ومزمن من
حالات الانفصال يبرز بشكل خاص في الأمراض العقلية، والأشكال النادرة من الاضطرابات
الانفصالية، مثل اضطراب الهوية الانفصالية الذي كان يطلق عليه سابقاً اضطراب الشخصية
التعددية.
بمعنى
آخر، في خضم الصدمة، قد يتحول الدماغ لتجنب الاحتفاظ بالحدث في الذاكرة، ومع ذلك، ليس
كل الأشخاص متشابهين، فما قد يشكل صدمة شديدة لشخص ما، قد لا يكون حدثاً شديداً بالنسبة
لشخص آخر.
ويمكن
أن يسهم التركيب الوراثي للشخص وبيئته في كيفية تلقي الصدمة، وفي هذا فإن سجل المرض
العقلي يلعب دوراً في كيفية تلقي الصدمة، في حال كان الشخص يتشارك في نفس الاستعداد
الوراثي الذي يعاني منه فرد من العائلة مصاب بمرض ذهني، مضيفة، بأن الطفل الذي يترعرع
في بيئة محبة وحاضنة من المرجح أن يكون أكثر مرونة من الطفل الذي ينشأ في أسرة يغيب
عنها الأمان.
على
سبيل المثال، إذا نشأ طفل في منزل محب مع نمو جيد، فمن المرجح أن يعالج الحدث الصادم،
مثل الكوارث الطبيعية أو الحروب أو سوء المعاملة، بشكل أفضل، أما في حال كان لدى نمو
الطفل النفسي شعور بعدم الثقة أو الخوف أو الهجر، فقد يكون من الأرجح أن يستجيب للأحداث
المؤلمة بخصائص انفصالية: "هناك اعتقاد بوجود عتبة من الصدمات النفسية حيث لا
يمكن للدماغ البشري التغلب عليها دون تفكيك"، و"يمكن أن يساهم العمر والعوامل
الوراثية والبيئة في ارتفاع عتبة هذا الشخص وكيف يستجيب دماغه للصدمة الشديدة".
كيفية التعامل بفعالية مع الصدمة
كبشر،
نحن مجموعة من القصص التي نرويها لأنفسنا مراراً وتكراراً، وبالتالي نحن مجرد تركيبة
لذكرياتنا التي تتجمع معاً بطريقة يمكن لنا أن نفهمها، وعليه قد لا يكون من المستغرب
أن يختبر المرء لمحات صغيرة من الذكريات المؤلمة التي لم يتمكن من تذكرها من قبل، فما
يحدث في بعض الأحيان هو أنه عندما يصبح الشخص بعيداً عن لحظة الصدمة، فإن الدماغ يسمح
بإطلاق الذاكرة في حزم، لذلك قد يتذكر المرء ما حصل في ذكريات قصيرة، على طريقة الفلاش
باك أو أفكار متطفلة.
واللافت
أنه عندما يتعامل الشخص مع الصدمة، سواء كانت علامات التفكك موجودة أم لا، فقد تكون
التجربة مخيفة للغاية، نظراً لأن هذه التجارب قد تتضمن موضوعات حساسة للغاية، من هنا
ضرورة الحصول على مساعدة الخبراء للمضي قدماً.
"من المهم التعامل مع الذاكرة
الجسدية للصدمة من خلال إعادة تجسيدها من جديد بشكل آمن، وخلق سيناريوهات مشابهة، وإعطاء
فرصة جديدة للجسم للتعامل مع الأحداث المؤلمة التي حصلت"
وبهدف
فهم كيفية تعامل العقل مع الصدمات، من المهم أن نعلم جيداً أنه لا يمكن فصل الجسم عن
العقل والنفس، والجهاز النفسي، مثل أي جهاز آخر موجود في الجسم، لديه قدرات معيّنة
للتحمل، وطريقة خاصة لمعالجة أمور معيّنة: "عند التعرض لبعض الصدمات قد يكون الجهاز
النفسي غير قادر على استيعاب ما حصل، فيلجأ الشخص المعني في بعض الأحيان إلى denial
أو الإنكار،
وهي آلية دفاعية نفسية يقوم بها البعض لحماية نفسه من الأذى والأفكار المزعجة والتعامل
مع الواقع".
وبالرغم
من محاولة الإنكار، فإن الجسم يختزن ذاكرة الصدمة: "في كل مرة نختبر فيها وضعية
أو حادثة مشابهة، قد يكون ذلك بمثابة trigger أو
محفّز للصدمة الأصلية والذكريات المؤلمة التي نحاول في معظم الأوقات قمعها، لكي نمضي
قدماً ونستمر في البقاء على قيد الحياة".
وهذه
الصدمات قد تظهر من جديد، سواء كان ذلك في الأحلام أو في الاضطرابات النفسية، مثل القلق
أو الرهاب، وفي الاضطرابات السيكوسوماتية (أمراض نفسية وجسمية)، أي الاضطرابات الجسدية
الناشئة عن اضطرابات نفسية، والتي يحدث فيها خلل في وظائف أحد أعضاء الجسم، "وذلك
ببساطة، لأن الجسم يتذكر ما يحاول الدماغ أن ينساه".
ويجب
التحلّي بالوعي والعثور على الدعم النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى اعتماد طرق معيّنة
قد تساعد الأفراد على "تفريغ" المشاعر المكبوتة، كالكتابة أو ممارسة الهوايات
التي تجعلهم يعبرون من خلالها عن أنفسهم، بالإضافة إلى بعض التمارين والأنشطة التي
تساعد جسمهم على "التحرر" من الذكريات المكبوتة: "من المهم التعامل
مع الذاكرة الجسدية للصدمة من خلال إعادة تجسيدها من جديد بشكل آمن، وخلق سيناريوهات
مشابهة، وإعطاء فرصة جديدة للجسم للتعامل مع الأحداث المؤلمة التي حصلت".
المصدر:
1
إقرأ أيضًا
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق