قصة وعبرة

السبت، 25 أبريل 2020

• المرأة وصورتها الجاهزة بين الماضي والحاضر


حتى في ظل أشد المناخات قوة يمكن للمرأة ان تمتلك حريتها.
كانت أمي لا تخرج من البيت إلا نادراً، مساء برفقة أبي يذهبان لزيارات عائلية، كنت أرى أمي تسير خلفه مرتدية غطاء على رأسها، لم يكن اسمه حجاباً شرعياً، كما هو حال اليوم. كان جدي لأمي محافظاً جداً، فأخرجها من المدرسة وهي في سنتها الثانية من المرحلة الابتدائية خوفاً عليها من العيون، إذ كان عيباً رؤيتها في الشارع.

أبي كان محباً للعلم وقد شجعني عليه. في الصباحات الباكرة، كان يوقظني لأدرس، وبمواجهة الأم التي تؤمن بأن "مصير البنت الزواج والبيت" كان الأب يعتقد أن ابنته لن تكون على صورة أمها، ستعمل خارج البيت وتأتي بمن يعينها. هأنا أستاذة جامعية متزوجة من أستاذ جامعي.
أمي تزوجت وهي في الخامسة عشرة، ولم تكن تعرف أبي. كذلك هو. إنما سأل إحدى قريباتها عن شكلها، خوفاً من الوقوع على زوجة بشعة وهو يحب "الحلوات" كان يروي لنا ذلك وهو يضحك. لأنه تحايل على الظروف.
اخترت زوجي أولاً، ثم انبأت العائلة بقرار الزواج، ولم يعترض أبي على قراري، كانت أمي حين زواجها ترتدي منديلاً أسود. ولم يكن اسمه حجاباً، لأن كل النساء كن يرتدينه. أبي نزعه من على رأسها، وصارت تلبس "إيشارباً" عادياً، أي "بالشوشة" كما يقولون بالعامية وإن بصعوبة في البداية. ثم عادت إليه حين تزوجت بناتها.
لا نغطي رأسينا، لا أنا ولا ابنتي.
جدتي أنجبت تسعة أولاد، عدا الذين توفاهم الله أطفالاً. أمي أنجبت سبعة أولاد، أما أنا فطفلان. إذ حَظِيَ جيلي بوسائل منع الحمل، فأصبح أكثر حرية في التخطيط لأسرته تبعاً لظروفه.
حين ذهبت إلى الجامعة في بيروت وأنا من صيدا، سكنت عند أختي المتزوجة، إذ كان عيباً أن أسكن وحدي.
ابنتي عاشت ثلاث سنوات لوحدها في الجامعة في بيروت، نشجعها أن تنهل من العلم، وأن تتكل على نفسها، ليس لها إلا العلم. "لا تتزوجي قبل أن تقطعي مرحلة أساسية في العلم، كي تعيشي كل مرحلة من عمرك على حدة، وقت للدراسة ووقت للعمل ووقت للزواج".
درستُ الدكتوراة في فرنسا وكنتُ متزوجة مع ولدين صغيرين. وحدي في باريس.
أمضت ابنتي سنتين في أمريكا لنيل شهادة الماجستير. حين كانت تضعف على احتمال الغربة، كنت أذكرها بوضعي السابق مع طفلين في باريس. "أنت أفضل حالاً مني، استفيدي من هذه الفرصة".
ابنتي تجتهد لتكون مستقلة. تعرف ما تريد، وأنضج مني فيما يخص العيش، حين كنت في سنها.
هل هذا كاف لأثبت التغير الحاصل في وضعية النساء في القرن العشرين؟
خطوط التماس
قديماً لم تكن الأمكنة العامة للنساء. البيت مكانها ومكان لقاءاتها. كان الفصل حاداً بين المكانين الخاص والعام، وحدودهما "خطوط تماس مجازية" كما أسمتها فرجينيا وولف، فالأماكن المختلطة نادرة جداً في أوائل القرن، وعبارة عن نواد خاصة، كانت حكراً على "علية القوم".
اليوم أجلس في المقهى وأكتب على كمبيوتري المحمول، ويرن هاتفي الخليوي، وأجيب عليه! لكن مازال البيت "مملكتي" كما تقول الصيغة الجاهزة الملاصقة للمرأة، تربطني به علاقة حميمة، أشتاق إليه، لكثرة إمضائي وقتاً خارجه. أحتله كاملاً ليكون مكان راحتي وتحركي وهدوئي. روى صديق لزوجته بعد أن زارنا على غفلة بأن بيتي مشغل للقراءة والكتابة، فالأوراق والكتب متناثرة في كل أمكنته.
الشارع أيضاً لنا نرتاده مشياً على الأقدام أو في سيارات نقودها. وكثيراً ما نرى امرأة تقود سيارة وزوجها الى جوارها. مشهد عادي جداً. تمر الشابات على أصدقائهن الشباب لاصطحابهم إلى بعض المناسبات، إن كان لا يملك سيارة يتقبل هذا الأمر بامتنان ولا يشعر به عيباً! كانت المتعلمات قديماً والكاتبات مسيحيات في غالبيتهن في لبنان  أنجزت كتاباً بيبليوغرافيا عن الكاتبات اللبنانيات 1850  1950 بالاشتراك مع نازك سابا يارد، ووجدت أن 10% منهن فقط مسلمات  اليوم اختلطت الأمور بشكل لم نعد ننتبه فيه إلى دينهن، ذلك لشيوع ظاهرة الكاتبات.
صارت ظاهرة البنات المتفوقات في المدارس والجامعات شائعة. كما تنوعت الاختصاصات التي تدرسها، فانفتحت حقول جديدة أمامها.
هل هذا كاف لأثبت التغير الحاصل في وضع المرأة؟
لقد ابتعدنا كثيراً عن صورة الجدة والأم على صعيد العلم والعمل والآفاق الممتدة أمامنا في الأسفار الواقعية والخيالية. إذ تعددت مصادر المعرفة ولم تعد حكراً على المدرسة، فالتكنولوجيا الحديثة ساعدت النساء حتى ذوات الثقافة المحددة على التواصل مع العلم، وإن بالنظر فقط والحلم. فكيف بالتي تعرف استخدام تسهيلات الإنترنت. كان على حق عالم الاجتماع إدجار موران حين قال إن المرأة هي الفاعل النشط والسري للحداثة. فهي التي أدخلت التكنولوجيا الحديثة الى البيت لتسهيل مهامها "غسالة- مكنسة كهربائية- ماكينة لفرم اللحمة..". هي مجددة في ابتكار حلول لمشاكلها البيتية.
الشابة اليوم تدفع عن نفسها أينما خرجت، من مالها الخاص. يتقبل الشاب الأمر على أنه لا يشكل إهانة له، كما جرت العادة في السابق. أحياناً تصر على الدفع حتى إن كان بإمكانه ذلك، كي تقيم مسافة بينها وبينه، أو لتثبت استقلاليتها مادامت هي تعمل مثله، "مثلي مثلك" تقول له. نجد هذه الظاهرة عند الفئة المتوسطة التي تتعلم فيها المرأة وتعمل. ولكن عند فئة اخرى ما زال الامر معيباً، مثل فئة الأغنياء الجدد، فالأغنياء التاريخيون قلة الآن. هؤلاء ثقافتهم محدودة وإن تمتعوا بالشهادات العليا. ما زالت الشابة تعتقد أن على الشاب الدفع، لأن في ذاكرتها نموذجاً واضحاً عليه التشبه به، هو أبوها الذي يصرف عليها وعلى أمها. والشاب بدوره، ما زال يشعر بالعيب، إن لم يدفع عنها.
إن الطبقة المتوسطة في المجتمع العربي هي حاملة قيم التغيير. لذلك لاحظنا أنه حين ضربت هذه الفئة- لأسباب كثيرة، لا مجال لسردها- انقسم المجتمع على نفسه بين أصولي متشنج دينياً أو قومياً، أو اشتراكياً، وآخر متفلت من كل القيم حتى الجيد منها، إذ فقد المجتمع توازنه الى حد ما.
أما المظهر الخارجي، فإنه معولم او "متأمرك" بالأحرى، منحاز الى الموضة العالمية، التي تتجه أكثر فأكثر نحو اللباس العملي المريح. ذلك عكس ما كانت عليه الأناقة الباريسية، التي كانت سائدة في النصف الأول من هذا القرن. الشابات والشباب يرتدون الجينز و"التي شيرت"، خاصة في التسعينيات، فاقترب الجنسان من بعضهما الى حد ما. كثير من اللباس صار يباع تحت عنوان "يونيسكس". لاحظوا الراحة التي نتمتع بها حين نلبس البنطلون! من جهة أخرى تقرب الموضة الرجال من النساء، إذ أصبح لديهم صبغة للشعر وللشوارب، أدوات التجميل، وعطور مشتركة، وزرع للشعر تخلصاً من الصلع، وكريمات ضد التجاعيد..
اقتربوا إذن من النساء على صعيد المظهر، وهن بدورهن اقتربن علي صعيد العلم والاستقلالية المادية.
بمعزل عن الجنس
بدأ الشاب يعترف بالكفاءة بمعزل عن الجنس، فمثلاً طبيب طالب يعترف أن نموذجه الذي يتمثل به هو امرأة طبيبة، ناجحة في مهنتها، وشاطرة في أبحاثها، "الناسا" تطلبها أحياناً للمشاركة في بعض أبحاثها. لم يعد يهمه إن كان الناجح امرأة أم رجلاً.
فهذا الشاب الذي يتمثل في مهنته بامرأة، أمه متعلمة. ما زلنا نعتقد كما اعتقدت الكاتبات في أوائل القرن أن الوطن هو على صورة الأم، لكن للمجتمع سمات متعددة ومتناقضة. سابقاً لم يتجرأ الرجل على استخدام الألفاظ النابية أمام سيدة، في الجامعات اليوم يعتبر الشاب أن الطالبة مساوية له، فيشتم أمامها غير ملاحظ أنها امرأة، أو هي بنظره امرأة قوية لا يخدش حياءها.
فالعالم والعلم كقيمة راقية للتقدم الاجتماعي والذاتي، مسألة تتعلق بالمستوى الثقافي للعائلات، فهناك ابنة تتمثل بأم متعلمة وتبدي رغبتها في إكمال مسيرتها العلمية، وأخرى تنتقدها قائلة لها "أنت دائما تحبين تعذيب نفسك. لأنك تختارين الطريق الاصعب"، "شو الله حاكلك". هناك شابة تعتقد أنها بعملها لا يمكن لأحد تحطيمها. وإن فشلت في أمر ما في حياتها، فإن العمل يساعدها على تجاوزه، فهو يحمي ماليا ونفسيا، وأخرى تميل الى تحميل الرجل المسئوليات جميعها "ليعمل ويكد. هذه شغلته مادام رجلاً". هذا النوع من الشابات يساهم في ترسيخ الصورة الجاهزة عن المرأة. وهؤلاء عادة لا يسرعن الخطى في إنجازهن العلمي بل يتمهلن، ويرفضن الطموح العلمي والمهني. لا تساعد البتة هذه الظاهرة في ازدياد عدد الشبان الذين يقبلون صورة جديدة للمرأة.
بعيداً عن الرومانسية
أخبرتني صديقتي التي أعرفها منحازة إلى قضية المرأة، أن شابا قريبا لها طلب منه أهل خطيبته أن تكون العصمة في يدها. مانع أهله واعتقدوا أن في الأمر مكيدة. وهي بدورها اعترضت وانحازت إلى قريبها وحين احتججت على موقفها، سألتني لو كان ابنك مكانه ماذا تفعلين. أجبتها بأن يوم ترفضه زوجته، لا يعود ابني بحاجة إليها.
هكذا فإن الأمور متشابكة لدرجة أنه يصعب أحيانا فصلها عن بعضها، كي نصنفها. فهناك شبان حديثون وكذلك شابات. لكن لحظة الجد، كالتعرض إلى مسائل أساسية مثل الزواج يعودون تقليديين في خياراتهم. مظهرهم على صورة وداخلهم على صورة مفارقة. تنعت الشابة الحديثة هذه الظاهرة "بالنفاق" أو بالتشوه. إنه من الصعب تغيير التمثلات والتصورات الساكنة في أذهاننا، لكن صورة الذكورة في الجيل الجديد تميل عموما الى التخفف من ثقل صورتها البطريركية.
من ناحية أخرى يقال إن جيل الشابات ابتعد عن الرومانسية، لكن حين قدم نزار قباني أول أمسية له بعد الحرب في الجامعة الأمريكية، كانت أعداد غفيرة من الشباب حاضرة بينهم كثير من النساء. وهن يكتبن الشعر والقصص ويداخلن في شتى المواضيع. انظروا على سبيل المثال ملاحق الشباب في الصحف، شابات مسئولات عن صفحة الانترنت وشبان يكتبون عن الحب.
إن جيل الستينيات من النساء، هو الذي قام بثورة على التقليد، فأحدث انقلابا نوعيا في نمط حياته وفي أسس علاقاته الاجتماعية. أتى جيل الشابات، أي بناتهن فيما بعد فوجد الأبواب مفتوحة له براحة ليتابع المسار رغم الصعاب، التي صار لها وجوه اخرى.
لماذا الستينيات؟
نقول إن النهضة الفكرية في آخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، والتي شاركت فيها النساء، ساهمت الى حد بعيد، في فتح المناخات الاجتماعية على أدوار أخرى للمرأة، بحيث إنها صارت أكثر حضوراً في المجتمع، خاصة في الإعلام والكتابة والجمعيات والصالونات الأدبية. ذلك إلى جانب خوضها الجدالات الفكرية من زينب فواز الى نظيرة زين الدين وهدى شعراوي، وصولاً الى نهضة الحياة الحزبية ومشاركة المرأة فيها وفي النضال من أجل الاستقلال الوطني.
بالإجمال تغير نظام الممنوعات، لم يعد هو عينه، كما بينا سابقاً. كانت الناس تحكي بالسوء عن المرأة إن وقفت على الشباك ، كما في الافلام المصرية.
لكن، هل صديقتي على حق، حين تقول بالأمس كنا بوضع أفضل? وهي تلمح لدور الأصولية المتنامي في العالم العربي. الذي يطلب من المرأة التراجع عن مكتسبات حققتها، محتجا على وجودها في الأماكن العامة، وحقوقها فيها، أو فارضاً لباساً عليها لم تعرفه أمها. إلا أن النساء يتميزن بالتكيف الاجتماعي الشديد، فهن أكثر ليونة وقابلية للمساومة. إن صفات المناورة هذه، تعود للشخص المستبعد والمقهور في وضعيته، فأنا مثلاً حين أحتج على عمل البنت التي تساعدني في البيت تجيبني بما يسكتني "إن لم يعجبك عملي أغادر". أصمت لأني لا أقدر على الاستغناء عنها. هكذا تفعل النساء في المجتمع، المداورة والالتفاف. سألتني مرة باحثة وعلامة الدهشة على وجهها: ترى كيف تحب المحجبة، كيف تتزوج. أجبتها: مثلها مثل الأخريات، فهي إن كانت متعلمة تشبه المتعلمات، وإن كانت غير متعلمة فهي تشبه مثيلاتها غير المحجبات بشكل عام، إذ لاحظت اختلاطهن في الجامعات مع الشباب، وهن في الصف أكثر جرأة من غيرهن. لم يعد الحجاب يعني سجناً، بل أحياناً يلعب دوراً مسهلاً لكثير من أمورها الشخصية، إذ يساعدها على البقاء غفلا عن الأعين. المحجبات يأكلن ويشربن ويرقصن ويغنين ويعملن ويقاومن..
بدأنا نلاحظ مثلاً ظهور مسابح نسائية خاصة بالمحجبات ، لأن من حق المرأة صحياً ان تمارس السباحة والتعرض للشمس. إنه حجاب من نوع آخر، يؤسس لصورة مختلفة عن تلك الجاهزة عنها. الشيخ الذي عقد قراني أجبرته زوجته أخيراً، على تغيير قيمة مهرها ليحوله إلى دولار.
لكن حين نقرأ في الصحف، عن قتل فتيات، تحت غطاء قانون يحمي القاتل باسم الشرف، نتساءل: هل القانون لحماية القاتل أم الضحية? كيف يكون العدل? وحين نقرأ عن كاتبة تحاسب على ما كتبته في قصة أو رواية- يفترض أن يكون عملها تخيلياً إبداعياً- كيف يكون شكل التغيير الذي بدأت عنه كلامي؟
هي تناقضات كانت موجودة وستبقى وفي كل المجتمعات، إذ لا يعني التقدم زمنياً التقدم حضارياً، فوجوه تتغير إلى الأفضل وأخرى إلى الأسوأ. إن علاقة مخاتلة تجمع بين الحداثة والتقليد، فيما يتعلق بالمرأة على وجه الخصوص، إذ تكتسح الحداثة التقليد من أجل تفكيك أرضيته الصلبة. إلا أن التقليد يحتال على الحداثة فيرضى بتمويه نفسه، فيلبس بعضاً من لبوسها. وكذلك تفعل الحداثة التي تحتال بدورها على التقليد فتلبس بعضاً من لبوسه لإقناعه بأن الأمور مستقرة على ما هي عليه.
وعليه فإن مشاهد النساء في المجتمعات العربية متنوعة، هذا يعني أنه على الرغم من جمود قوانين الأحوال الشخصية التي لم تساير التغيرات الواقعة على الأرض، فإن المجتمع سار باتجاهات معاكسة أحياناً لهذه القوانين، فالتفت النساء عليها ووجدت مخارج للمتغيرات التي تعيشها ولمتطلباتها المستجدة. لكن إلى متى يبقى الفارق كبيراً بين الدولة المشرعة ومواطناتها في عيشهن، من يخدم هذا الافتراق؟
تغيير جوهر العالم
اتخذت أسلوب التورية في هذه المقالة، إذ أردت بها أن أختم القرن العشرين على مشاهد النساء المتشابكة في المجتمعات العربية والتي لا يمكن أخذ أي وجهة نظر في صددها بمعزل عن غيرها، ذلك لأن كلاً منها يقف في تراصف معقد ومتناقض مع وجهات النظر الأخرى. فالشواهد الحية من الحياة اليومية هي الأقدر على كشف أواصر التورية والمخاتلة التي نعيش بها والتي من دونها يبقى عسيراً على الفهم التغيرات المجتمعية الجديدة. لا أحد يستطيع الذهاب أبعد من المعيش، الذي خلق صوراً للنساء شديدة الاختلاف في عالم يبدو غير مختلف تماماً. واعني به عالماً لا مكان فيه للحرية، لتميز الفرد عن غيره، وحيث المرأة ليست سوى أداة نفعية. ما أعنيه هو أن المرأة من دون أن تسعى إلى تغيير جوهر العالم الذي تعيش فيه استطاعت أن تحول وتصوغ ذلك العالم وفق مخيلة هائلة. فأمام ورطتها في تقاليد وقوانين مجحفة كانت تفتح أمامها نوافذ لا لتهرب منها بل لتدخل النور إلى عيشها.نوافذ ترى منها أبعد مما هي عليه، إنها احتمال قائم لا تكف عن إرسال وهج إلى حياتها. يكمن التأثير السيىء للأيديولوجيات  وهي ليست سيئة بالجوهر  في تقليصها لواقع المرأة وجعله مقصوراً على البعد السياسي نفسه إلى ما هو سلبي فيه. أرى إجحافاً في هذا التقليص رغم الاستفادة منه للنضال ضد شرور الأنظمة القمعية. ذلك لأن أكبر الشرور هو تقليص الواقع إلى سياسة، ثم تقليص السياسة إلى مناصب. لذلك وعلى رغم النوايا الحسنة التي تكمن وراء هذا الموقف، فإنه يمتلك روحاً اختزالية، لأنه قلص حياة النساء إلى قائمة من القهر والممنوعات.
عبر أحاديثي مع عدد من النساء، كن يرددن بطريقة طقسية صياغات جاهزة قبل البدء بالحديث عن التجارب اليومية في عيشهن، مثل "الدولة لا تعترف بوجودنا" "سياسة انتهازية إقصائية للمرأة عن مواقع القرار" "ذلك النظام المتخلف". ثم بعدها يعود الحديث إلى اليومي منتهياً :"حرام الرجل، مسكين. يعاني هذه الأيام من تغير أدوار المرأة، وهو ضائع في هويتها الجديدة". لذلك عندما يستخدمن تعبير "النظام القاسي" فإنهن يقلصن حياتهن إلى البعد السياسي فقط. وحتى التاريخ السياسي للمنطقة العربية في هذا القرن هل عاشته ك "بلوك" من القمع? هل نسين كيف دخلن إلى الأحزاب وساهمن في الثورات وصار من حقوقهن الترشيح والانتخاب رغم العوائق الكثيرة. وكيف دخلن إلى عوالم الفنون والآداب والعلوم، وتنقلن بينها وكتبن ونشرن وفتحن المؤسسات التجارية، وسخرن من النظام وسياسييه!
بوصفهن الماضي على أنه قمعي يحولن حياتهن إلى شيء لا قيمة له أو غير موجود أصلاً، أي أعوام ضائعة. ففي ظل أي جو شديد القسوة يمكن للمرأة ان تمتلك حريتها في اتخاذ قرار ما يمنح حياتها سعادة غير مخطط لها. وهذه الحرية هي مصدر إلهام إلى التغيير.
نهى بيومي
المصدر: 1
إقرأ أيضًا                           
للمزيد
أيضاً وأيضاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق