الطريق
طويل طويل.. بدأت الرحلة مع طلعة النهار، ودعت مدينتي مع أول خيط لشمس الصباح التي
شاهدت وجهها الدائري الأحمر يطل علي من جهة الشرق، والآن..
ها هو
قرصها المشتعل ينبثق عمودياً على رأسي، فينز جسدي عرقاً، أجفف حباته بكم جلبابي
لأواصل تتبع ظل الأشجار المصفوفة عن يميني.
وأنا
وحيد..
في هذا
الطريق الطويل.. أرى الحقول المترامية تتحرك بين زروعها أجساد الفلاحين مكبين على
عملهم، يحرثون، يروون، يقلعون، ولا يعنيهم أمري، ربما قال أحدهم في سره "هذا
ولد صغير يمشي وحيداً، تحت الشمس اللاهبة".
إنهم
لا يدرون أنني مدفوع بأمر أبي، فقد عقد لي منديله على شيء غامض لأحمله إلى صديقه
المقيم بالقرية البعيدة. إنهم لا يدرون أنني مدفوع بإرادة الإخلاص، والرغبة في
الإنجاز لأؤكد لأبي جدارتي.
أنا
أسير وحيداً، والقرية لم تزل بعيدة، الصمت من حولي، يعلو ماء النهر الراكد، ويسبح
كالبخار فوق الزرع، ويرقد بين الأغصان الساكنة.
لا صوت
غير دبيب قدمي على حصى الطريق. الخوف.. حال من حولي، راح يتبع خطواتي المجهدة،
يختفي خلف الجذوع، أو يرمي بجسده فجأة في الماء.
والصرخة
كادت تنطلق من مساء جسدي لأطلب النجدة من أناس يجهلونني، وهل بنبغي للرجل أن يصرخ؟
أو يطلق العويل؟
قلت
لنفسي: تشجع، فكل ما تراه مجرد وهم. ولكني صغير، وأسير وحدي، في طريق طويل، ما
هذا؟
إن هذه
النخلة السامقة تشبه أبي، فارهة مثله، سعفها المتجمع على نفسه يتشكل بملامحه.
- يا
أبي.. هل تراني؟ إنني لا أتراجع فابتسمت النخلة، وهسهس سعفها في الريح الخفية،
وقالت: واصل الطريق.
وألقت
إلى بعضاً من رطبها تحت قدمي. سرت.. وسرت، لا أشعر الآن بصهد الشمس، فقد أمالت
شجرة الصفصاف شعورها نحوي، بللت أطرافها من ماء النهر، ونثرته في طريقي، فخبا وهج
الحصى الساخن، ولطفت القطرات حرارة وجهي.
إنها
تشبه أمي حين تحل ضفائرها، أشرقت خضرتها ببسمة رائعة، وقالت: واصل يا صغيري.
ومسحت
على شعري بأغصانها المبللة. سرت.. وسرت حتى وقعت عيني على أبراج الحمام، وذوائب
النخيل، ثم بدت عن قرب دور من طين، وانعطفت إلى طريق فرعي تتشابك على جانبيه أصابع
الشجر.
ورأيت
التوتة الصغيرة، كانت واقفة بين جذوع السنديان الذي يلمس وجه السماء، نفضت شجرة
التوت جسدها الصغير فتساقط منها ثمر لذيذ، جمعت بعضه بين كفي، ورفعت رأسي إليها
لأشكرها، فكانت تشبه أختي التي استيقظت مبكراً لتكون في وداعي.
ورأيت
يدها المرحبة مرفوعة بالدعاء أنا الآن أدنو.. والطريق الطويل صار ورائي.. كيف
سبقني إلى هذه القرية؟ كان أبي واقفاً إلى جوار صديقه بانتظاري على باب الدار، رحب
بي صديق أبي، وأدخلني ظلة داره، ثم مد لي يده بشربة الماء، ليرتوي جوفي، ومد لي
مائدته فارتدت لي طاقتي. وها أنا أخرج له الأمانة، فيضيء وجهه ببسمة كبيرة، ويقول:
إن أمانة أبيك مجرد منديل فارغ. وربت أبي على كتفي بحنو قائلاً: لقد وفقت فيما
أردته منك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق