فلاتر التجميل
في عصرنا الحالي، أكثر من أي وقت مضى، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تزوّدنا بسيل من الصور لأشخاص وأماكن لا عدّ ولا حصر لها، فحسب آخر سجلات منصة إنستغرام يتم تنزيل أكثر من 95 مليون صورة ومقطع فيديو يوميًا، والعدد إلى مزيد مع توقّع ارتفاع الأرقام في عصر العزلة الذاتية المعتمدة على هواتفنا الذكية.
ظاهريًا،
ليس هذا شيئًا سيئًا على الإطلاق، إذ تتيح لنا المنصات المختلفة الموجودة على
وسائل التواصل الاجتماعي اكتشاف الأماكن والأشخاص والأشياء بسهولة فائقة، لكنّها
تطالعنا أيضًا بسيل غير محدود من صور لوجوه وأجسام قد تم تحريرها بدقّة وتجميعها
بعناية لأشخاص هم بالحقيقة بعيدين كل البعد عما تظهرهم عليه تلك الصور.
تدفعنا معظم المنصّات الاجتماعية، من خلال تصميمها، إلى المساهمة في حلقة من المقارنة المستمرة التي قد تكون لها تداعيات سلبية على صحتنا النفسية. ومما زاد الأمر تعقيدًا، إضافة ما يسمّى بـ «فلاتر التجميل» التي نقلت تطبيقات تحرير الصور من إنتاج صور منخفضة الجودة إلى تقنيات يمكنها تحسين وتغيير مظهر الأشخاص بشكل كامل. فلم يعد الأمر يقتصر على القصّ وموازنة الضوء وتغيير الخلفية، بل تعداه إلى إمكانية تحديد الوجنتين وتنعيم البشرة وتكبير العينين وتغيير لونهما وتصغير الأنف، وما إلى هنالك.
ظهور ثقافة الـ «سيلفي»
من الناحية التقنية، فلاتر التجميل هي في الأساس أدوات مؤتمتة لتحرير الصور تستخدم الذكاء الاصطناعي والرؤية الحاسوبية لاكتشاف ملامح الوجه وتغييرها.
في البداية، يحدد الكمبيوتر الوجه المصور، ومن ثمّ يغطيه بقالب لوجه غير مرئي يتكون من عشرات النقاط، مما يخلق نوعًا من الشبكة الطبوغرافية، وفور أن يتم ذلك، يمكن ربط عالَم من الرسومات الخيالية بالشبكة، وتكون النتيجة تغيير أيّ ملمح من ملامح الوجه أو الجسم، حسب الرغبة.
وعلى الرغم من أن فلاتر التجميل الموجودة في الوقت الحالي تُعد تقدمًا حديثًا، فإنها، في الواقع، امتداد لظاهرة السيلفي المستمرة منذ عقود. كما أن صور السيلفي ذاتها تعود جذورها إلى ثقافة «الكاواي» اليابانية من سبعينيات القرن الماضي التي تشير إلى «الظرافة»، أو كل ما يتعلق بالسلوك والمظهر اللطيف بأسلوب طفولي بريء محبّب للنفس، والتي كانت رائجة بين المراهقين، لا سيما الفتيات منهم، وقد تطوّرت في التسعينيات إلى ما أصبح يُعرف بالـ «بوريكورا» التي هي اختصار لكلمتين Print Club، وهي عبارة عن أكشاك لالتقاط الصور التذكارية يتم طباعتها على ورق لاصق، حيث يمكن تنقيحها وتزيينها من خلال إضافة بعض الزخارف أو التعديلات عليها، وحتى الكتابة عليها بقلم خاص.
وعندما ظهرت فلاتر الوجه لأول مرة على وسائل التواصل، كانت وسيلة للتحايل واللهو والتسلية ليس إلّا، حيث سمحت للمستخدمين بلعب نوع من الألعاب الافتراضية، مثل تغيير الوجه ليبدو وكأنه حيوان، أو إضافة شاربين، أو تضخيم الأذنين وما إلى ذلك.
أما اليوم، فقد بدأ المزيد من الشباب - وخاصة الفتيات المراهقات - استخدام فلاتر التجميل الموجودة على Snapchat وInstagram وTikTok، وغيرها من أجل إضفاء الجمال على مظهرهن الخارجي وحتى تقديم أنفسهن بمظهر نموذجي عن طريق تحديد وجوههن وأجسادهن وتقليصها وتحسينها وإعادة تلوينها.
فلاتر التجميل في جانبها المظلم
قد يبدو أن إضافة بعض اللمسات على وجوهنا رقميًا أمر بريء إلى حد ما لتجنّب بعض من الإحساس بعدم الأمان، بسبب عيوب في مظهرنا الخارجي، لكنّ هذا السلوك فعليًا هو جزء من أمر أكبر بكثير وأكثر خطورة.
تقول العضوة في «عيادة علم النفس الدولية» عالِمة النفس مارتينا باجليا، إنه «مما لا شكّ فيه أن وسائل التواصل أصبحت تلعب اليوم دورًا كبيرًا في حياتنا، وبالنسبة لكثيرين يتضمّن ذلك الدور قلقًا متزايدًا حول الطريقة التي سنبدو بها بالنسبة إلى معارفنا من مستخدمي الإنترنت الآخرين، ومع وجود فلاتر التجميل التي أصبحت شائعة بشكل متزايد، بات من النادر مشاهدة الصور - خاصة للفتيات والنساء - التي لم تتم فلترتها بطريقة ما».
لكن، حسب د. باغاليا، فإنّ ذلك الأمر له تأثير كبير على تقدير الذات، لأنّ هذه الفلاتر تعطينا شعورًا لا إراديًا بأنّ مظهرنا الخارجي ليس جيدًا بما فيه الكفاية للظهور به أمام الأصدقاء والمعارف، وتدفعنا إلى عيش ما هو مستحيل، مما يساهم في تفاقم مشكلات احترام الذات المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالتفاوت بين صور السيلفي التي تمّت فلترتها، وشكلنا الفعلي الذي نراه في المرآة.
وفيما كان المراهقون والشباب الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي باستمرار يقارنون وجوههم وأجسادهم بصور لأقرانهم ولأبرز المشاهير، أصبحوا الآن يقارنون أنفسهم بصورهم المفلترة التي تظهرهم بعيون أوسع وشفاه أكثر امتلاء وبَشرة أنعم، وما إلى هنالك من تحسينات في الشكل والمظهر.
ويقول الباحثون إن هذه المقارنة وهذا التركيز المستمر على معايير الجمال غير الواقعية هو أحد أسباب ارتباط وسائل التواصل الاجتماعي بالاكتئاب والنرجسية وقضايا احترام الذات، إضافة إلى اضطراب نفسي حديث بات يعرف بـ «ديسمورفيا سناب تشات».
يعاني المصابون بهذا الاضطراب شعورًا بالانفصال بين مظهرهم الحقيقي والصور التي يشاركونها مع العالم، ويطورون اقتناعًا بوجود خلل وهمي في شكلهم الخارجي يُركزون عليه باستمرار ويرغبون في إصلاحه. وكان أول َمن صاغ مصطلح «ديسمورفيا سناب تشات» جرّاح التجميل البريطاني د. تيجيون إيشو، بعد أن لاحظ ازديادًا في طلبات المرضى الذين يقصدون عيادته لإجراء تعديلات على شكلهم الخارجي لجعلهم يبدون مطابقين لصور سيلفي لهم كان قد تمّت فلترتها.
قال د. إيشو في مقال كتبه بصحيفة الإندبندنت البريطانية عام 2018 «مع إدخال المنصات الاجتماعية والفلاتر على مدى السنوات الخمس الماضية ازداد عدد المرضى الذين يقصدون العيادات الطبية مع نسخ مفلترة لأنفسهم كمثال يريدون الوصول إليه، وإن مثل هذا الأمر سيدفعهم إلى السعي المستمر لإجراء عمليات متكررة لن تكون كافية لإرضائهم أبدًا، وسيصبحون بحاجة إلى الدعم النفسي المتواصل».
لم يكن د. إيشو وحده مَن أدرك هذا الاتجاه الجديد فيما يتعلق بطلبات عمليات التجميل، فوفقًا للإحصاءات الصادرة عن الأكاديمية الأمريكية لجراحة الوجه التجميلية والترميمية، يرى الجراحون عددًا متزايدًا من المرضى الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا، الذين يطلبون الحقن وإجراءات التجميل.
وفي الوقت نفسه، فإن الإحصاءات تشير إلى أن 90 في المئة من مستخدمي تطبيق سناب تشات تتراوح أعمارهم بين 13 و24 عامًا في حين أن 60 بالمئة من المستخدمين هم من الإناث.
وقد أظهرت دراسة قام بها مجموعة من الأطباء التابعين للأكاديمية الأميركية لجراحة الوجه التجميلية والترميمية ذاتها، بعنوان «صور سيلفي... العيش في عصر الصور المفلترة» أنه «بالإمكان القول إن تطبيقات فلاتر التجميل تجعلنا نفقد الاتصال بالواقع، لأننا نتوقّع أن نبدو بشكل ممتاز في الحياة الواقعية تمامًا كما نظهر عليه بالصور المفلترة، وإن لصور السيلفي التي تتمّ فلترتها آثار ضارة على المراهقين وأولئك الذين يعانون اضطراب تشوّه الجسم، لأنّ هذه المجموعات العمرية قد تتبنى معايير الجمال التي يحددها العالم الرقمي بشكل أكثر قوة».
المراهقون ومشاكل تحديد الهوية
بعيدًا عن القلق واضطرابات تشوه الجسم والسعي إلى التدخل الجراحي للتشبه بالمعايير الجمالية التي يحددها العالم الرقمي، يمكن أن يكون الضغط الاجتماعي للتوافق مع شرائع الجمال غير الواقعية خطيرًا على الفئات الضعيفة نفسياً مثل المراهقين.
فبالنسبة للشباب، الذين هم في طور تحديد هويتهم بالحياة، يمكن أن يكون التنقل بين الذات الرقمية والأصيلة أمرًا معقّدًا بشكل خاص، وليس من الواضح حتى الآن ما هي عواقبه الطويلة المدى.
إذ من غير الصحّي في فترة عمرية يحاول فيها المراهقون تكوين هوياتهم أن يتعرّضوا لمعايير وهمية من خلال الشبكات الاجتماعية، فتصبح التعديلات التي يمكنهم الحصول عليها بواسطة فلاتر التجميل جزءًا من رؤيتهم للواقع.
تقول الباحثة في جامعة ساوث ويلز، كلير بيسكوت، إنه بالنسبة للمراهقين فإن «انعدام الأمان بشأن مظهرهم الخارجي يصبح أمرًا مثيرًا للقلق، لأنه يصعب على المراهقين تكوين هوياتهم الفعلية التي سيظهرون بها بشكل دائم إلى الآخرين، لا سيما خلال وقت تتغير فيه أجسامهم بسرعة».
قد يقول البعض إن تعديل الصور وإضافة اللمسات التحسينية لطالما كان أمرًا موجودًا في عالم التصوير، لكنّه لم ينتج عنه أي مشاكل أو اضطرابات نفسية تُذكر. ربما يكون ذلك صحيحًا، ولكن في الزمن الماضي كان تغيير المظهر في أيّ صورة من الصور يستغرق ساعات وساعات من العمل المتخصص والمضني كان يقوم به مختصون بواسطة اليد. ومن ثمّ سمحت تقنيات معيّنة في الغرف المظلمة لمحرري الصور بالقرن العشرين في إزالة «العيوب» مثل التجاعيد البسيطة أو الجيوب الجلدية المنتفخة، وقرب نهاية القرن غيّر الـ «فوتوشوب» طريقة معالجة الصور، لكنّها مع ذلك بقيت تتطلب وقتًا ومهارة من قبل محترفين مدربين.
أما الخطورة التي استجدت اليوم مع دخول تطبيقات فلاتر التجميل فتتمثل في سهولة وسرعة تنقيح الصور شخصيًا في غضون ثوانٍ، ومن دون أي تكلفة تُذكر يمكن أن يقوم بها أي فرد في خصوصية تامة، مما جعل آثارها النفسية أوسع انتشارًا وأكثر تهديدًا، لا سيما لفئات عمرية تعاني في العادة الإحساس بعدم الأمان وتفتقد الثقة بالنفس.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ
أيضًا
الروائح مدخل
للتسامح وفهم العالم
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً
وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق