التواصل أمر صعب في
معظم الأحيان، وبسبب سوء التواصل فقد تحدث المشاكل يوميًا بين العائلات والأصحاب
في البيوت والمدارس وأماكن العمل، وحتى بين الثقافات والشعوب والدول والأمم.
وقد تدرك عدم الرضى عن
نفسك عندما لا تنجح بالتواصل مع الآخرين حتى لو لم يكن قصدك الإيذاء، وتجد نفسك في
حلقة مفرغة حيث تمارس نفس النمط من التواصل وتحصل في كل مرة على نتائج غير سارّة.
فإذا أردت أن تعرف
لماذا تواصلك غير مجدٍ، وأن تعرف الطريقة الفعالة في التواصل، عليك أن تلقي نظرة على
بديهيات "بول واتزلاويك" (Paul Watzlawick)
التي هي من أهم طرق التواصل. ويرى النمساوي واتزلاويك (Watzlawick)
الحائز على الدكتوراه من جامعة فينيسي سنة 1949 أن مشاكل الحياة
سببها التواصل، وأن البديهات الخمسة يمكن أن تكون السبب في حل معظم هذه المشاكل.
البديهية الأولى: من المستحيل عدم التواصل (You cannot not communicate)
كل ما نقوله وما لا
نقوله، ما نفعله وما لا نفعله، هو رسالة للآخر، لذلك لا يمكننا أن نقرر عدم
التواصل، فالتواصل اللفظي أو الإيمائي، التواصل الصريح أو الضمني، ادعاء معرفة
أفكار الآخرين والتصرف بناءً على ذلك، جميعها لها انطباع لدى الآخر، فرفع
الحاجبين، أو إشاحة النظر جانبًا، أو نظرة عطف وشفقة، قد ترسل رسالة سلبية
للآخرين، وتسبب شرخًا في العلاقة معهم، بل وترسخ العدائية بينك وبينهم. وحتى الصمت
المطلق هو نوع من التواصل، فحين تصمت في وجه الآخر، فإنك قد توحي له بأنك غاضب، أو
أنك مُعْرِض عن التواصل معه.
أمثلة:
·
حين سأل المدير موظفيه
أثناء الاجتماع عمّن يريد أن يكتب محضر الاجتماع، نكّس شادي رأسه وبدأ ينظر في
أوراقه.
·
سامي تأخر عن
الاجتماع... قد يوحي ذلك للآخرين أنه غير مهتم.
·
أحمد يردّ على مكالمة
هاتفية أثناء الاجتماع... قد يوحي للآخرين أنه يعتبر نفسه أكثر أهمية من الجميع.
البديهية الثانية: المحتوى والعلاقة (Content and relationship)
تحتوي عملية التواصل
على ناحيتين: المحتوى والعلاقة، أما المحتوى فيعني الحقائق التي تحتويها الرسالة
المرسلة، بينما العلاقة تعني كيف يرى المرسل علاقته بالفرد الذي يستقبل المعلومات
وكيف يريد أن تُفهم رسالته.
وعكس ما هو شائع فإن
العلاقة أقوى من المحتوى بكثير.
مثال: إذا كانت علاقة
المعلم بالمدير سيئة، فلن يتقبّل المعلم ما يطرحه المدير بغض النظر عن المحتوى وقد
يحتدم الجدال في أية لحظة، بينما إذا كانت علاقة المعلم بالتلميذ قوية فإن كل ما يقوله المعلم يتقبله التلميذ عن
طيب خاطر.
مثال آخر: لو افترضنا أن هناك
موظفين في الشركة على نفس المستوى من الوظيفة، قال الأول للثاني بطريقة الآمر أن
عليه أن ينهي المهمة الموكلة إليه قبل نهاية الأسبوع، مما تسبب في غضب الموظف
الثاني ليس بسبب محتوى الرسالة (إنهاء العمل قبل نهاية الأسبوع) بل بسبب العلاقة
التي يظهر فيها الأول وكأنه المسؤول الآمر الناهي.
مثال: سامي يريد خدمة من
الموظف، وقد يطلب منه الخدمة بإحدى الطريقتين التاليتين:
1) هل بإمكانك أن تطبع لي نسختين من هذا المستند؟
2) إطبع لي نسختين من هذا المستند.
من الواضح أن المحتوى
في الرسالتين هو نفسه، لكن مستوى العلاقة يزوّدنا بمعلومات مختلفة في السيناريوهين،
فالعبارة الأولى تُفهم على أنها "طلب" بينما الثانية "أمر"،
إضافة إلى ذلك فإنك تستنتج من العبارة الأولى أن العلاقة هي علاقة بين موظفين من
نفس المستوى قائمة على الاحترام، أما العلاقة في العبارة الثانية فهي إما أن تكون
بين رئيس ومرؤوسه، أو بين موظفَيْن من نفس المستوى يمارس الأول على الثاني سلطة
الآمر. ومهما يكن من أمر، فإن الآثار المترتبة من خلال المعلومات الواردة في
المثال تؤثر على أنماط التواصل في جميع أنحاء النظام، وتؤكد دائمًا أن العلاقة
تؤثر في التواصل أكثر من المحتوى.
مثال: يقول الأب لابنه
أحيانًا: "أنا أضربك من أجل مصلحتك"، فمع أن المحتوى هنا يضر بالإبن،
إلا أنه في صغره يتقبل ذلك ويرضى به لأن علاقته بوالده متينة ويعتبره قدوة له.
وقد تثير العلاقة
والمحتوى نوعًا من الالتباس والتناقض بين المُرسِل والمُرسَل إليه خلال عملية
التواصل.
مثال على الالتباس: إذا قال شخص لآخر:
"كم أنت غبي"، فقد يقبلها منه باعتبارها مزحة إذا كان صديقًا مقربًا
منه، وقد تثير المشاكل باعتبارها إهانة من شخص عادي، وقد تثير الالتباس في كلا
الحالتين بين الجد والمزاح.
مثال على التناقض: إذا قال المدير
المشرف للموظفين: "يتوجب عليكم جميعًا أن تتبعوا الهرمية في المراسلات
والشكاوى"، ثم تابع يقول: "يمكن لأي واحد منكم أن يدق بابي ويعبّر عمّا
يجول بخاطره، فأنا واحد منكم"، يكون المدير بذلك يبعث رسالتين متناقضتين في
وقت واحد تؤدي إلى التباس في الفهم لدى الموظفين.
وتأكيدًا على أن
العلاقة أقوى من المحتوى، فإنه في كثير من الأحيان حين يحتدم الجدل والخلاف بين
اثنين على موضوع معين، يكون الخلاف في الحقيقة حربًا خفيّة سببها العلاقة بينهما
وليس موضوع الجدال.
تطبيقًا لهذه
البديهية، وحرصًا على تمتين العلاقة مع المستفيدين يجب أن يُعفى المرشد المدرسي
والعامل الاجتماعي والطبيب النفسي من مهام كثيرة في المدرسة، وخاصة المهام التي
فيها إصدار أحكام مثل وضع العلامات، توزيع الجوائز، مراقبة الامتحانات، المناوبة،
الحفاظ على النظام والانضباط، عضو في المجلس التأديبي، التحقيق في مشكلة لمعرفة
الجاني... لأن هذه المهام جميعها تؤدي إلى سوء العلاقة مع الطلاب وبالتالي ستؤثر
على محتوى الرسالة الموجهة إليهم.
البديهية الثالثة: تسلسل الأحداث أو الترقيم (Punctuation)
إن طبيعة العلاقة بين
شخصين تتوقف على تسلسل عملية التواصل بينهما، وفي كثير من الحالات تنطوي عملية
التواصل بين اثنين على رسائل تصدر من كليهما في كل الاتجاهات، وخاصة في أشكال
التواصل غير اللفظي، وعملية تسلسل الأحداث أو "الترقيم" ما هي إلا ضبط
إيقاع الرسائل وتنظيمها وتحويلها إلى معانٍ، تمامًا كما يحدث في اللغة المكتوبة
حيت أن عملية الترقيم في كلتا الحالتين
تغيّر المعاني أحيانًا.
فطبقًا لهذه البديهية
نرى أنه غالبًا ما يفسّر الواحد سلوكه كردّ على سلوك الآخر: من بدأ الشجار؟ أي شخص
على حق؟ كِلا السؤالين تتم الإجابة عليهما من وجهة نظر مختلفة، وبالتالي يحتدم
الجدال ولا ينتهي، فالشجار بين الزوجين، أو بين زميلين، يبدأ من نقطة معينة، ثم
يستمر ويتشعّب ويدور في حلقة مفرغة بحيث يصبح من الصعب العودة إلى نقطة البداية
ومعرفة كيف ابتدأ الجدال.
مثال:
الزوجة: أنا عاتبة
وغاضبة من زوجي لأنه يتأخر في العودة إلى البيت.
الزوج: أنا أتأخر في
العودة إلى البيت لأني أجدها معصّبة ومكشّرة.
الزوجة: لو أنه يعود
باكرًا ستهدأ أعصابي وستعلو البسمة وجهي.
الزوج: لو أني أجدها
هادئة وباسمة كنت سأعود باكرًا إلى البيت.
من خلال المثال السابق
نلاحظ أن الشخص عندما تسيطر عليه أفكار ومشاعر غير مريحة فإنه يُسقط ما فيه على
الآخر مما يؤدي إلى الشجار والعراك.
مثال آخر: الموظفة تتجنب محادثة
المدير لأنه دائمًا يكلّفها بأعباء إضافية وينتهز أية فرصة لتوجيه التعليمات إليها
حول ضرورة تحسين أدائها، بينما المدير يعتقد أن الموظفة غير متعاونة وأنها دائمًا
تتذمر من أية مهمة توكل إليها.
فكل سلوك يقوم به أحد
الطرفين يعتمد على سلوك الطرف الآخر.
فما تراه أنت لا يراه
بالضرورة محدثك، فإذا أردت أن تحلّ أي إشكال مع الآخرين، تخلَّ عن لومهم، وغيّر
الزاوية التي تنظر منها، وضع نفسك مكان الآخر، عندها تستطيع أن تدرك أن الشخص
الآخر ليس مخطئًا، واظهرْ نواياك الإيجابية تجاه الآخر لتشجعه أن يكون صادقًا
وأمينًا في التعامل.
البديهية الرابعة: التواصل رقمي ومُنَاظِر (Digital and analogous)
يشمل التواصل الإنساني
النوعين: التواصل الرقمي والتواصل المُناظر، وكلمة رقمي في أيامنا تعني الأرقام
والكومبيوتر والموبايل، أما في هذه البديهية فتعني عناصر محددة ومنفصلة مثل
الكلمات وبعض الإيماءات والإشارات المفهومة والمتفق عليها مثل رفع الإبهام بمعنى
"أوكي".
أما التواصل المُناظر
فإن عناصره في الغالب غير لفظية كالإشارات والإيماءات، فهز الإصبع في وجه الآخر هو
دليل على العنف والعدوانية.
أمثلة:
إذا قلت: "هذه
قطة"... (تواصل رقمي)
إذا قلدت صوت القطة
وقلت "مياووو"... (تواصل مُناظر)
إذا قلت: "أنا
حزين"... (تواصل رقمي)
إذا بكيت (تواصل
مناظر)
إذا قلت لشخص:
"تفضل بالجلوس"... (تواصل رقمي)
إذا أشرت بيدك نحو
الكرسي كي يجلس... (تواصل مُناظر)
إذا قلت: "هذا شخص طويل"... (تواصل
رقمي)
إذا أشرت بيدك إلى
الأعلى تقصد أنه طويل... (تواصل مُناظر)
ولكن يجب أن نتنبّه
إلى أن التواصل الرقمي أكثر تحديدًا من التواصل المُناظر لكنه إقل صدقًا منه،
فبالرجوع إلى المثال السابق "أنا حزين" (رقمي)، و"البكاء"
(مناظر)... فإذا قال شخص "أنا حزين" فإننا نفهم من كلامه بالتحديد أنه
حزين، لكننا لا نستطيع أن نتأكد من صدق كلامه، فهو قد يكون حزينًا وقد لا يكون.
بينما التواصل المُناظر أكثر صدقًا لكنه أقل تحديدًا... فإذا بكى الشخص، فإننا نرى
الصدق في البكاء والدموع، بينما لا نستطيع تحديد الدموع: أهي دموع حزن أم دموع
فرح؟
وفي كل الحالات فعند
التواصل، يجب أن يتوافق تواصل الشخص الرقمي مع تواصله المناظر، فإذا تعارضا أو
تناقضا فإنه يقع في مأزق ويكون بذلك قد فشل في عملية التواصل.
مثال: يقول المدير في أحد
اجتماعاته مع الموظفين: لدينا وقت كافٍ لمناقشة البنود المتبقية (تواصل رقمي)، ثم
لا ينفك ينظر إلى ساعته كل لحظة وأخرى (تواصل مُناظر).
مثال آخر: يقول لك زميلك: أنا
حزين جدًا... يقولها وهو يبتسم...
فهذا التناقض يوقعك في
إرباك والتباس، وكي تحل هذا الاتباس قد تجد نفسك مصضرًا للاستفسار منه قائلاً: لقد
شوّشت أفكاري، هل بإمكانك أن تفسر لي كيف تكون حزينًا وأنت تبتسم وتضحك في نفس الوقت؟
البديهية الخامسة: التواصل متماثل أو مكمّل (Symmetrical or complementary)
يكون التواصل إما
متماثلاً أو مكمّلاً، وذلك بناءًا على العلاقة القائمة بين الشخصين من حيث التكافؤ
أو التفاوت، فالتواصل المتماثل يتم بين شخصين من نفس المستوى أو المرتبة أو السلطة
أو توازن القوى.. وغالبًا ما يكون التواصل في اتجاهين متعاكسين.
مثال:
· مديران يتناقشان في موضوع محدد ويحاججان بعضهما...
· طالبان يسخران من بعضهما وكل يوجه الانتقاد للآخر.
مثال: صديقان من نفس العمر
الأول: هيا نذهب
لنسبح.
الثاني: ولماذا تريد
أن تسبح؟
الأول: أنا أحب
السباحة كثيرًا.
الثاني: ومنذ متى أنت
تحب السباحة؟....
مثال عن شخصين يمتلكان
القوة مع فارق العمر والسلطة: جدال يحدث بين أم وابنها، وكل واحد منهما يستخدم نفس
الاستراتيجية ويحاول أن يفرض رأيه وينتزع قبول الآخر ويجاهد لتفادي الخسارة...
وبذلك تزداد حدّة الخلاف ويشتد النزاع.
أما في التواصل
المكمّل فإن التواصل يتم بتفاوت في: المرتبة، المركز الوظيفي، المستوى التعليمي،
العمر، القوة، السلطة... مثل التواصل بين الأب والابن، المعلم والطالب، المدير
والموظف، الضابط والجندي، الوقح والخجول، المهيمن والتابع، الثرثار والسَكوت...
وغالبًا ما يكون التواصل في نفس الاتجاه.
مثال: يقول الضابط للجندي:
إقفز من الشاحنة وارمِ نفسك في النهر... الجندي يمثتل وينفذ دون اعتراض.
في التواصل المكمّل
تكون الاستراتيجيات متعاكسة ومكملة لبعضها...
مثال: الزوج يوجه لزوجته
عبارات اللوم والانتقاد.. لكن الزوجة تصمت وتسكت ولا ترد عليه، هذا يساعد على عدم
تأجيج الخلاف لأن استراتيجية الزوج هي التصعيد نحو الشجار بينما استراتيجية الزوجة
هي التهدئة، لكن ذلك قد يؤدي إلى فتور في العلاقة بسبب التواصل الجاف. ولكن يجب أن
ننتبه ألى أن الشخص يتظاهر أحيانًا بالتواصل المكمّل، لكنه في الحقيقة لا يكون
كذلك، فقد يطرح المعلم على التلميذ تعليمات معينة فيقول التلميذ "نعم"
ولكن عندما يدير المعلم ظهره يعارضه التلميذ ويقول "لا".
وأحيانًا كثيرة في هذا
النوع من التواصل يكون الربح من خلال الخسارة، فالمرشد المدرسي مثلاً أو العامل
الاجتماعي يكون هدفه تخفيف حدّة الصراع وحل المشاكل، فمن خلال تواصله المكمّل،
يبدو وكأنه خسر المعركة، لكنه في الحقيقة يكون قد فاز لأنه استطاع السيطرة على
الوضع.
نلاحظ أنه في ساعات
الغضب يكون التواصل متماثلاً مما يؤدي إلى الشجار، ولكي نتفادى النزاع الناتج عن
التواصل التماثلي علينا أن نمزج بوعي تام بين استخدام التواصل التماثلي والتواصل المكمل
لنخفف من حالات ردات الفعل. ولسنا في وارد أي النوعين أفضل، فلكل نوع حسناته
وسلبياته، فقد نلجأ في أحيان كثيرة إلى تجنب التواصل المكمل عن قصد ونلجأ للتواصل
المتماثل لنستفزّ الشخص ونحمله على الكلام والتعبير.
إن سياسة "العين
بالعين والسن بالسن" هي تواصل متماثل، بينما سياسة "من ضربك على خدك
الأيمن أدر له الأيسر" هي تواصل مكمل.
وفي الختام فإن بول
وتزلاويك (Paul Watzlawick)
يؤمن بأن التواصل الجيد هو أمر ضروري لتلبية العلاقات الإنسانية والتفاعل بين
الأشخاص، ففي بديهياته الخمسة يحصر وتزلاويك (Watzlawick)
التواصل بالجوانب الأساسية ويعطينا الفرصة كي ندرك لماذا لا نفهم بعضنا أحيانًا،
فالبديهيات الخمسة تُظهر للواحد منّا كيفية خلق الظروف المناسبة لطريقة التواصل
المناسبة التي تحقق له المسرّة والسعادة وتساعد في حلّ مشاكله.
إعداد: علي رمضان
تابعونا على
الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب
والمعلمين والأهالي
حكايات معبرة وقصص
للأطفال
شرح اكثر من رائع.شكرا لك!
ردحذفشكرا وبارك الله فيك على الشرح الواضح
ردحذفشكرا على الشرح
ردحذف