الجمعة، 26 مايو 2017

• الساعة من المزولة حتى يوم القيامة

يُروى عن جدي "الذي حانت ساعته الأخيرة قبل انتصاف القرن العشرين" أنه عثر على قطعة معدنية ذات بريق ملقاة في طريقه، فانحنى ليلتقطها مسرورا، لكنه لم يلبث أن فوجئ بقطعة سلك دقيق تتقافز تحت بللورتها، فاضطرب الرجل اضطرابا شديداً، لاسيما أن السلك كان مصحوباً بدقات غامضة ومتوالية، فألقى الرجل بالشيطان أرضاً، وأجهز عليه في شراسة بعكازته حتى توقف تنفسهما: الرجل والشيطان، فتلطخت سيرة الرجل الطيب بالطريقة التي وقع فيها شارلمان ملك فرنسا إزاء ساعة أهداها إليه الخليفة العربي هارون الرشيد قبل ذلك بقرون.
والساعة التي في معاصمنا الآن، أو على حوائط قاعاتنا، أو المشكلة تحفة لها ذكرى في بيوتنا، أو تلك التي ينحني أمامها موظفو العالم وعماله توقيعاً في حجرها إثباتا لوقت بداية أو نهاية أعمالهم، أو هذه التي تشكل جزءا من بيانات السرعة والوقود على لوحات القيادة في كل الآلات والماكينات والسيارات والطائرات والبواخر، أو تلك التي تعلو المتاحف والكنائس والميادين والمساجد، ومختلف دور العبادة. كل هذه الساعات إنما هي المرحلة الأخيرة في تطوير المزولة ثم الساعة الرملية أو المائية، أي تلك الساعات البدائية التي صاحبت حركة الإنسان في مختلف الأحقاب والأزمان الماضية، والتي أصبحت الميراث الأعظم والمؤثر لهذه التشكيلات والإشارات التي زخرفت سقف قاعة معبد دندرة في قنا المصرية، والتي يقال إنها أقدم رسوم لترجمة معنى الوقت، بما فيها أبراج حركة الشمس والقمر، لقد كان هذا السقف فلكياً أيضاً، ومثيراً للخيال، أكثر بمراحل من الساعة الذرية الحديثة أو تلك الألكترونية التي تعمل داخل برامج الكمبيوتر وسفن الفضاء.
وأول تطوير ذي شأن للساعة المائية بعد المزولة والساعة الرملية ثم المائية كانت في القرن السادس الميلادي لتصبح بداية الساعة الآلية.
وفي القرن التاسع عشر، ظهرت الساعة الكهربائية لكنها لم تنتشر إلا عام 1930 وإن ظل استخدامها محدوداً بسبب ارتباط دوام تشغيلها باستمرار التيار الكهربي، والذي كان ينقطع فترات تؤثر بالطبع في الجدوى من الاعتماد عليها في التوقيت، وكانت فرنسا وانجلترا هما مركزي صناعة وإنتاج الساعات في تلك الفترة، ثم دخلت المجال ألمانيا، فالولايات المتحدة، ثم سويسرا التي أصبحت في طليعة الدول التي تصنع الساعات.
وأشهر الساعات في العالم هي بيج  بن التي تزن ما يقرب من 14 طنا، وهي قائمة أعلى برج دار البرلمان في لندن، وتتابع الإذاعة البريطانية إذاعة دقاتها، ثم ساعة ستراسبورج ـ عاصمة الألزاس الفرنسية الثقافية والتجارية ومقر المجلس الأوربي المتحد، وساعة مبنى متروبوليتان للتأمين على الحياة في نيويورك الأمريكية.
ويقال إن مدينة نورمبرج الألمانية هي التي صنعت ساعة اليد في وقت مبكر، هذه الساعة التي أصبحت رمزاً لهدايا النجاح، والزواج، وإثارة نشاط الإنجاز، والرغبة في التواصل الغرامي، مع أن لحظة الموت تخضع أيضا للفظ الساعة، وتطلق الساعة كما هو معروف على يوم القيامة لأن له موعداً محدداً عند رب الدنيا والآخرة، ويقال إن جاء لفظ الساعة نكرة في القرآن الكريم فالمقصود المعنى الزماني مثل سورة الأعراف آية 34 فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون(آية 34 الأعراف).
سورة يونس آية 45 ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم (45 ـ يونس). فإذا جاء لفظ الساعة معرّفا فإنما المقصود يوم القيامة سورة الأنعام آية 31 حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها (31 ـ الأنعام).
أما بين الناس فقد ارتدت الساعة أرديتها الملونة المعطرة أو البائسة المناسبة: "ساعة الحظ لا تعوض"، "ساعة لقلبك" ـ برنامج الإذاعة الشهير من المثل الدائر: ساعة لقلبك وساعة لربك"، ثم ساعة أن أراك جنبي كصياغة فصيحة وساخرة لما يثيره محمد عبدالوهاب في أغنيته الشهيرة: "ساعة ما بشوفك جنبي"، ثم هناك ما شدت به أم كلثوم قديما في نغم بالغ التوسل: "ساعة رضاك"، أما "ساعة الصفر" فهي التي بعدها مباشرة تبدأ الحركة الأولى في الحرب، أو مداهمة البنوك والمصارف، أو افتتاح المشروعات، أو الاغتيال، أو استشراف بداية أول لقاء مع المحبوب المأمول، وهي الساعة الميمونة أيضاً، تقابلها ساعة النحس التي تدركنا فيها النوازل والعواصف والكوارث والأخبار السيئة، رعاك الله وحفظك منها.

محمد مستجاب



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق