الأحد، 4 سبتمبر 2022

• أســـرَى الشّاشـــات


الهواتف الذكية

وفيما الصمتُ هو سيدُ الموقف، باتت السهراتُ العائليةُ يتخلّلها بعضُ الأحاديث العابرة، التي يدور أغلبها حول ما شاهدَ أو قرأ على النت، ولا تتم إلا بتواصل الإمساك بالهاتف ليعودَ الصمتُ ويتسلل مجدداً، والعيون مسلَّطة على الشّاشات الصغيرة للهواتف الذّكية...

هذه الهواتف الذكية التي تقدّم لك ما شئتَ من ألعابٍ إلكترونية واتصال على الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، فتحس كأنها نافذتُك على الحياة، وتنسى وأنتَ تحدقُ بها لونَ السماء وطلاءَ جدران البيت، ولمعة الحزن أو التماعة الفرح في عيون من هم بقربك، لكأنّك بعيدٌ عنهم وغائب رغم حضورك الجسدي؛ فكلٌّ غارقٌ في عالمه الملون قريباً وبعيداً عمّا وعمّن حوله!

الهواتفُ الخليوية التي بات وجودها توأماً للحياة المعاصرة، وباتت ضرورة، وتحديثها ومواكبة آخر الموديلات أو متابعة الخيارات تشكّل جزءاً مستحدثاً وطفيلياً عنيداً من ميزانية الأسرة العربية، بصرف النظر عن المستوى الاجتماعي والقدرة الشرائية وأولويات الحياة الخاصة بها، فكأنّها مسألةُ حياة، لا بل موضع تفاخر وسباق وتنافس وارتباط بقيمة الفرد وانفتاحه ومستواه الفكري وتعاطيه مع العصر.

فهل التسابقُ على اقتناء الهاتف الخليوي الأكثر حداثة يشكل سبقاً فكرياً وإنجازاً ويرفع من شأن مقتنيه والموديلات في تحديث متواصل، وما تمّ شراؤه قبل أشهر يفقد جزءاً كبيراً من قيمته الشرائية والمعنوية؟ أهي حمى الشراء ولعنة الاستهلاك وشراهة التعاطي مع التكنولوجيا؟ أم هي لغة العصر الذي فقد كثيراً من أبجديات الحوار؟ أم لعلّها رغبةٌ دفينةٌ لدى الشاب العربي بالشعور بالإنجاز والامتلاء العاطفي والمعنوي والإحساس بالتفوق؟

 لا حياة دون اتصال وتواصل مستمر، دون تلك الأصبع السادسة في الكف، أعني االخليويب، الذي غدا صديقاً غير صدوق؛ يعطيكَ ما قد يفيد وما لا يفيد، وربما يضرُّ بدرجاتٍ لا يمكن التكهُّن بها، ويسرقُ منك الوقتَ مادةَ الحياة، وتنسى وأنت تصافح هاتفك أن تتفقّد أصابعَ الوقت!

مجانية مصادر المعرفة

في المقابل، هذا المدى المفتوح سهّلَ الوصول إلى المعلومة، وساهمَ في توسيع الآفاق، وهو يشكّل حصيلةً معرفية بصرف النظر عن فحواها، وقادر على أن يُشعر من لا يستخدمه بأنه منعزلٌ وأعمى وبعيد إن لم يواكب ويشاهد ويسمع ويرى، كلّ ذلك مدعوم بالصورة لغة العصر وفمه، وبالصوت وبتعدد وتنوُّع المصادر وبزخم المستخدمين، وباعتبار من لا يجاري اللهاث التكنولوجي شخص متخلف عن عصره أو متقوقع على ذاته، نعم إن للتطور التكنولوجي فوائد لا يمكن حصرها؛ فما يعرفه أبناءُ هذا الجيل احتجنا لسنواتٍ طويلة لنعرفه إنْ تيسرت لنا المعرفة، مَن منا ينسى القاعات الفسيحة في مكتبات الجامعات حين كانت تمتلئُ بالطلبة وهم يكدّسون المراجعَ أمامهم، ويمضون الساعات الطوال في التسجيل على بطاقات كرتونية لاستخدامها في كتابة بحث أو إتمام رسالة لنيل درجة الماجستير، فيما الصمت يرفرفُ فوق رؤوسهم؟

 اليوم اختلفت وسائل البحث وتعددت مصادرُ المعرفة، وباتت شبه مجانية وبأقلّ وقتٍ وجهد، دون الحاجة إلى الرجوع لأكداسٍ من الكتب والمراجع، لكن ربما ثمة حاجة إلى تعليم فن البحث وتنظيم الوقت؛ فـ االإنترنتب تحميكَ من ذلّ السؤال، لكن قد تنسيك الأسئلة!

ما يتعرّض له مستخدم الهاتف الذكي من تجارب معرفيةٍ وبصريةٍ يثري مخزونه الفكري ويؤثر في بنيته النفسية ومنظومته القيمية بدرجةٍ لا يمكن التكهن بها أو الحكم عليها أو حتى التحكم بها، فهل نكتفي بالنظر ورفع الأكتاف دلالة العجز، أم نلجأ إلى اللّوم وهو أسهل الطرق للهروب من مشكلة؟! هل نلومُ الزّمان أم الجيل أم أنفسنا؟ ربما الاعتراف بوجود مشكلة هو المفتاح الأول في طريق الحل، أو التقليل من تبعاتها وتداعياتها.

ثورة في التعليم

 نحتاجُ إلى تبني منهجية مدروسة للتعامل مع الأمر، وأهم ما نحن بحاجة إليه عربياً - برأيي - هو العمل على إجراء تغيير جذري في المنظومة التعليمية، وربما نحتاج إلى ثورةٍ في التعليم؛ فالطالبُ الذي في جيبه هاتفٌ خليوي ذكيٌّ وعلى جدران بيته شاشات تبثُ سيلاً من سيلِ الفضائيات التي تسرقُ حواسَه، مثل هذا الطالب لا يمكن أن يقنعه أو يؤثر فيه معلمٌ ملقّن وكتابٌ بالأبيض وبالأسود وحصة حاسوب تقليدية بأجهزة غالباً ما تكون قديمة وعددها أقل من عدد الطلبة، مما يؤدي إلى تزاحمهم عليها، وطبيعة المادة مقيدة ونظرية، ويلجأ المعلمُ إلى تحفيظ الطلبة نظراً إلى صعوبة التطبيق العملي.

 أما حوسبةُ التعليم، فمازالت حلماً متعثراً أو كلاماً نظرياً لم يطبق عربياً بعد بدرجةٍ كافيةٍ ومرضية.

إذن ثمة فجوة تكنولوجية يعيشها الطالب بين ما بيده من أجهزة متطورة وما عليه أن يكابده من جمود وتقليدية في المدرسة، مما يجعلها عاملَ طردٍ لا جذب، فكيف نطلب منه ونطالبه بحفظ كمٍّ كبيرٍ من المعلومات واسترجاعها على الورق بعد فترةٍ لقياس قدراته التحصيلية، وهو يحصل بكبسة زر على المعلومة ويسترجعها أمامه على الشاشة؟

كيف نتوقع منه الهدوء والانسجام في الغرفة الصفية المفتقرة أو الخالية من الشّاشات، إلا من سبورة صماء يسجل عليها المعلمُ ويلقّنُ باستراتيجيات مكرورة لا ترتقي إلى تعليم التفكير ولا تنتظر السؤال، وغالباً لا تحترم الحوار ولا تفعّل دورَ طالبٍ تيقظُه التكنولوجيا من نومه، وتقتادُه خلال نهاره، وتخاطبُه وتمدُّه بالخبرات المعرفية المتنوعة، وتطبع على جبينه قبلةً ضوئية قبل أن يغفو ممسكاً بهاتفه المضيء؟

أبناؤنا ليلاً يشبهون الحشرة الملقبة بـ اسراج الحصادينب، فهل يستضيئون بما هو خيرٌ لهم، أم إنّ الأمر نسبيٌّ ولا يمكن قياسه أو الحكم عليه؟

مُشتتات ومغريات وملهيات يتعرّض لها من هم في سنّ الدراسةِ، مما يتطلّبُ التركيز على النوع لا الكم، وتفعيل البحث العلمي، واحترام سعة أفق الطالب، وتذكير المعلم بأنه لم يعد المصدرَ الوحيد للمعلومة، وأنّ الكتاب المعتمد أو المنهاج سيفشلُ في إقناع الطالب والوصول إليه والأخذ بيده إذا ظلّ تقليدياً، لأنّ زمن الشّاشات ليس زمناً تقليدياً، بل هو خارج عن المألوف ويواصل الخروج عن كلّ ما هو متوقع.

 زمنُ التواصل شرع البابَ لمواسم من الجفاف العاطفي والتصحر أحياناً في العلاقات الاجتماعية وبين أفراد الأسرة، وبخاصة من قبل الأبناء الذين شكّلت لهم التكنولوجيا جدراناً مصطنعة من الأمان والاحتواء، والعالم المتكامل الأركان؛ فلم يعد الوالدان المنبع الرئيس للمنظومة القيمية والمعرفية حتى في السنوات الأولى من العمر، فالذين تفتحت عيونُ وعيهم على الشاشات، وباتت جزءاً من طبيعة حياتهم، أصبح الاستغناء عنها غير منطقي وغير وارد؛ فكأنها اليدُ الثالثة لهم، التي تساعدُ وتبحثُ وتقيمُ العلاقات الاجتماعية الافتراضية، وتعرقلُ المجرى الطبيعي للنهار وتستهلك الكثير من الطاقاتِ، وتستنفد كثيراً من الوقت في ما هو مفيد وما غير مفيد.

 ربما ثمة ضحايا صامتون لعصر االميدياب هم جيلُ الآباء والأمهات من أبناء القرن المنقضي، الذين يحاولون مجاراة التطور التكنولوجي، لكنه لم يحتل الجزءَ الحميم في دواخلهم التي بُنيت بدفء وحميمية الجلسات العائلية والتواصل البصري والمباشر وجهاً لوجه مع الآخرين وليس بـ االفيس بوكب مثلاً!

استهلاك التكنولوجيا

 النواحي الإيجابية للهاتف الخليوي لا يمكن حصرها؛ فهي نتاجُ عقودٍ من التطورِ العلميّ، فيه تيسيرٌ للحياة وتغيير في ملامحها وطبيعتها ومجرياتها، فهي مؤثرةٌ في العمل والحياة، وأصبحت ملازمةُ هاتف خليوي للفرد أمراً بديهياً، فهل تحوّلنا التكنولوجيا - شئنا أم أبينا- إلى أرقام؟

هل بتنا مستهلكين لها ولمنتجاتها ونقتات على ثمارها دون أن نعي الحاجة الملحة إلى آلية لضبط الوضع؟ هل ينطبق علينا المثل القائل اهجين وقعَ في سلة تينب؟

 كثيراً ما أشاهد أماً اترشوب ابنها الصغير بهاتفها الخليوي الذكيّ كي يجلسَ هادئاً منشغلاً ريثما تنجزُ واجباتِها المنزلية، أو تتم حاجتها في صالون التجميل أو حتى لتتابعَ مسلسَلها المفضل، وينشأ الطفلُ في سنواته الأولى مفتوناً بالشاشةِ الآسرةِ الساحرة،ِ التي تسرقه أضواؤها وأصواتُها وعواملُ الجذب المتعددة والمتنوعة فيها دون أن يعي أنه أصبح أسيراً لها، نعم نحن اأسرى الشاشاتب، لنعترف.

 الآن فيما أكتب كلماتي أنظر إلى شاشة االلاب توبب وأستأذن فكري لحظاتٍ كي أتفقّد شاشةَ هاتفي الذكيّ بجانبي، وأتركُ ما أقوم به لأتابعَ شاشةَ التلفاز وأفكر بمقالة عن اأسرى الشّاشاتب!

 أذكر جارنا كبير السن الذي يطيل الجلوس أمام مدخل العمارة، كم كان يكثرُ من ذمّ جنون الناس بالهواتف الخليوية ممن يراهم من الداخلين والخارجين، ويشكو ويشتم انشغال أولاده بها، حتى أهداه أحدهم هاتفاً خليوياً حديثاً وعلّمه، بعد جهدٍ، كيفية استخدامه وهمس بأذنه أنه للضرورة، فأصبح العابرون للعمارة يدخلون ويخرجون وهو منشغل عنهم بما في يده، مكبٌّ كالطالب النجيب على هاتفه الخليوي!

 لو استطعنا حسابَ الفترة الزمنية اليومية التي نقضيها في تصفّحٍ سريعٍ لشاشات هواتفنا الذّكية ومواقعِ التواصل الاجتماعي وإحصاء عدد المرات لأصابتنا صدمة، ووصلتْ إلينا مرارةُ الإحساس بهدر الوقت، لكننا اعتدنا التخفيف من هول الصدمة والتقليل من أهمية الأمر، باعتبار أن هذا التصفّح سريع ودونه نشعر بالوحدة، وأنّ الجميع يقومون بذلك، فهل الانزواء على الشاشات يمثّلُ هروباً من الوحدةِ أو أحد أسبابها؟

ربما قراءةُ الآثار النفسية لإدمان الهاتف الذكي ومواقع التواصل الاجتماعي تحتاج إلى وقفةٍ أخرى .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

تصوير الطفل يهدد صحته النفسية وقدرته على النضج

مقدار الحرية التي يجب أن تمنحيها لأبنائك المراهقين

الكافايين والاكتئاب: تأثيرات سلبية وإيجابية

علامات التوحد عند الأطفال في الشهر الثامن

التعليم من أجل السعادة

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق