في صَبَاحِ يومٍ مشرِقٍ مِنْ أيَّامِ الصيْفِ الجَميلةِ، قاَلَ والدي
لأمي: «ما رأيُكِ يا عَزيزَتي لَوْ نأخُذ لَميْسَ وجِهادَ في نُزْهةٍ إلى البَحْرِ
اليومَ؟».
«فِكْرَةٌ رَائعَةٌ! سيكونُ يَوْمًا مُمْتِعًا لَهُما» قالت أمّي.
ثمّ ناَدَتْ لميس لِتُساعِدَها في إعْدادِ العدّةِ للنُزْهَةِ مِنْ
ثيابٍ وألْعَابٍ وطَعَامٍ.
وَبَعْدَ ساعةٍ من المَسيرِ وَصَلْنَا إلى البَحْرِ، فوقفتْ لميسُ
قُبالَتَه تُسرّحُ النَّظرَ في مَسَاحتِهِ الشَّاسِعةِ ثُم هَتَفَتْ: «يا الله! ما
أجملَ البحرَ وما أنْقَى صَفْحتَه البللُوريةِ الزرْقَاء!».
أمَا أَنَا فَرُحْتُ أمشي عَلى الشَّاطئِ أتحسّسُ دِفْءَ الرّمَالِ
بِقدميّ العَاريتَيْنِ. وبَعْد أنْ سِرْتُ لفَتْرَةٍ وَجيزَةٍ عَثَرْتُ على شيءٍ
يُشبِهُ البُوقَ الصَّغيرَ. التقَطْتُهُ بِسُرْعَةٍ مِن على الرّمالِ مقلّبًا إياهُ
عَلَى غيْرِ وجْهٍ وأَسْرَعْتُ إلى أبي: «أبي انظرْ ماذا وَجَدْتُ! إنَّهُ حَجَرٌ
غريبُ الشَّكْل».
كانَتْ أُخْتي مازالت واقفةً تتأملُ البحرَ فأسْرَعَتْ إليّ لترى هي
أيضًا ماذَا وجَدَتُ. ابتسم أبي قائلاً:
«هَذا ليسَ حجرًا يَا جِهادُ.. بَلْ إنّها صَدَفةٌ تغني».
«صَدَفةٌ تُغَنّي؟! كيفَ هذا يا والدي؟».
«صَحيحٌ! كيفَ هذا؟ «أَضَافَتْ لميس..
أَجَابَ وَالدي: «قَرّب يَا جهادٌ الصدفةَ إلى أذْنِكَ وأَصْغِ
إليْهَا جيّدًا».
«إلى مَاذا سَأصْغي وَهيَ فارغةٌ يا أبي؟».
«هيا افعلْ هذا يَا جهادُ.. قالتْ أمّي.. فما ستسْمَعْهُ رائعٌ
جدًا».
أثارَ كلامُ أمّي في دَاخلي فضولاً مُلِحّا فوضعتُ الصدَفَةَ عَلى أذْني
بسُرْعةٍ مُنْتَظِرًا ما ستُفَاجِئُني بِهِ هذه الصدَفةُ الفارِغَةُ. وبعدَ
هُنَيْهةٍ تناهى لِمَسْمَعي صَوتٌ عَميقٌ بعيدٌ يُشْبِهُ صَوْتَ الْبَحْرِ فَصِحْتُ
بِأعْلى صَوْتي مِن شِدةِ الدهْشَةِ: «إنّني أسمعُ صَوْتَ الأمْواجِ!».
«صَوتُ الأمواجِ في الصدفةِ؟! «دَعْني أَسْمَعُ دَعْني أَسْمَعُ يَا
جِهَادُ!» قَالَتْ لميسُ مُتلهفَة.
فَأَعْطيْتُها الصدَفَةَ وقَرّبتْهَا إلى أذنَها ثم أضَافَتْ بعَد
قليلٍ: «فِعلاً! فِعْلاً! إنَّه صَوْتُ الأمْواجِ، كَيْفَ تَسْكُنُ أَمْواجُ
الْبَحْرِ الصدَفَةَ يَا والدي وَهِيَ بالأصْلِ كبيرةٌ جِدّا؟َ».
فأَجَابَ والدي وهو يَحْضُنُنا قَائلاً: «عنْدَما كنتُ صَغيرًا طرحتُ
السؤالَ نفْسَه على وَالدي فقالَ لي إنَّ الصدَفَةَ والْبَحْرَ قَدْ جَمَعتْهُما
مُنذ القَديمِ صَداقةٌ وَطيدةٌ. ففي يْومٍ من الأَيامِ قاَل الْبَحْرُ
لَلْصَدَفَةِ: «خُذي صَوْتَ أمْواجي يا صديقَتي الصَّدفَةَ واجْعليهِ أُغْنيةً
تردّدينها كلّما أرَدْتِ أَنْ تَتَذكَّريني»..
فخبَّأت الصَّدفةُ صَوْتَ الأمواج في أَعْماقِها قائلةً: «لَنْ
أنْساكَ أبدًا يا صَديقي البحرْ فَصَوْتُ أمْوَاجِكَ سَيَبْقى في أعْماقي وَلَنْ
أسْمعه إلا لِمَنْ كَانَ قَلْبُهُ في وِسْعِ امتدادِك الأزْرَق».
هذه هي قصةُ الصَّدَفةِ والْبَحْرِ يا وَلَديّ فما رَأيُكُما؟».
«إنَّها فعلاً لَصَدفةٌ رَائعةٌ! هَتَفَتْ لَميسُ.. أَيُمكِنُنا أَنْ
نَحْتَفِظَ بها يَا وَالدي؟».
«أَجَلْ بالطَّبْعِ يَا بُنيتي».
وَقَبْل أنْ تلفَّ لَميسٌ الصدَفَةَ بمنْديلِها الأبْيضِ، أخَذْنا
نتأملُها بإعْجابٍ كبيرٍ فَتَراءى لَنَا وَكَأنَّها تَنْظُرُ إلَيْنا مُبْتَسِمةً
قَائلَةً: «شُكْرًا شُكْرًا جَزيلاً لكُمَا أيُّها القَلْبَانِ الواسِعانِ
كالبَحْرِ».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق