فشلَ الغرابُ في إقامةِ علاقة صداقة
بينه وبين الطيورِ، على الأخص الحمامةَ البيضاءَ التي تسكن بعده بثلاثِ شجراتٍ. فكّر لماذا؟ وما
السبب؟! إنه لم يحاول إلحاق الأذى بها.
في كل صباحٍ، كان يلقي التحيةَ على الحمامةِ
البيضاءِ، ترد عليه باقتضابٍ غير مرحبّة بمدِّ جسورٍ للحديثِ بينهما. «ما الحكاية؟»
همس لنفسِهِ في حيرةٍ، وهرشَ رأسَه بانفعالٍ غاضبٍ ثم عاد إلى تساؤلاتِهِ: «هل
عدم الترحيب بي يعود إلى لونِها الأبيضِ؟ ولوني الأسود الغامقِ؟»، «أم لأنني أتعامل
مع غيري على أنني الأفضل؟» أبعد فكرة أن يكون السبب «لونَهُ»، فهو يتذكر أن والده
أخبرَه منذ مدة أن العالم كله قد تخلّى عن التفريق بين الأجناسِ في اللونِ.
وأصبح خاليًا من العبيدِ الذين كانوا قد سُرقوا من بلادٍ إفريقيةٍ لتسخيرهم عند
الرجلِ الأبيضِ، والإنسان اليوم لا يميّزه عن غيرِهِ إلا عملُه، لا لونُه. فكّر
كثيرًا هذا الصباح، ولكنه لم يجد سببًا. وأخيرًا، استسلم لظنه أن السببَ ربما يعود إلى
أسلوبِهِ الغليظِ وخشونتِهِ
في التعاملِ مع غيرِهِ، وبرّر ذلك بأنه مثلَ الجنودِ: جاد في حياتِهِ، ولا يعرف النعومةَ والدلعَ.
«... لايهم الآن التفكيرُ، فأنا جائعٌ
وتعبٌ» هكذا همسَ لنفسِهِ، ولم يعرف كيف غلبَه النومُ، ولا يتذكر ما حدث له بعد ذلك! هل سقطَ من
فوقِ الشجرةِ فالتقطهُ أحدُهم!! إنه في حال ذهول من المكانِ الذي وجد فيهِ نفسَه.
تلفّت يمينًا ويسارًا، واكتشف أنه في سيركٍ. «يا للعجب!» قالها وهو يهزُّ رأسَه
عندما رأى مهرّج السيرك بملابسِهِ الملونةِ يداعبُ الأولادَ، وفجأةً أخرج من جيبِهِ
حمامةً بيضاءَ تشبهُ الحمامةَ البيضاءَ جارته التي تسكنُ بعده بثلاثِ شجراتٍ ولا
تبادله الودَّ، ووقفت على كتفِ المهرّج الذي أخرجَ من جيبِهِ الآخر حمامةً سوداءَ
وقفت على كتفِه الثانية، وصفّق بيديهِ، فانتقلت الحمامةُ البيضاءُ بجوارِ الحمامةِ
السوداءِ، ولاحظَ الغرابُ أن
كلاً منهما تقترب من الأخرى أكثرَ كأنهما صديقتان، فتأكد بما لا يدع مجالاً للشكِ أن حكاية «اللون» لا
علاقة لها بالصداقة أو الودِّ أو الحبِّ أو العملِ، وعرف أن والده كان صادقًا عندما أخبره أن زمن العبوديةِ
والتمييزِ بين البشرِ للونهم قد انتهى.
نفض جناحيه كأنما يحاول أن يُبعد عنه
هواجسَه، وأحسّ بالانتعاشِ، فبدأ يتأمل ما حولَه: مجاميعٌ من الكبارِ وأولادِهم الذين جاءوا لمشاهدةِ
ألعابِ السيركِ، ألوانُ
بشرتهم مختلفةٌ، بيضاء، وسمراء، وسوداء، وصفراء، يتضاحكون جميعًا على ما يشاهدونه من ألعابٍ بهلوانيةٍ.
فجأةً رأى حبلاً من السلك يمتد بعرضِ السيرك وفوقه أحد البهلوانات يتأرجح، فحاول تقليده. كانت مشيته بها نوعٌ من
العرجِ الذي يذكرّنا بالقرصانِ صاحبِ القدمِ الخشبيةِ، الذي كثيرًا ما شاهدناهُ
في أفلام السينما الكرتونيةِ،
وهنا هتفَ أحدُ الأولادِ من مقاعدِ المتفرجين، وهو يشير بإصبعِهِ: «انظروا.. إنه القرصان الأعرجُ الصغيرُ!!».
فانتبه الجميعُ للغرابِ الذي كان يرقصُ
على الحبلِ السلكِ، وأخذوا يصفّقون له، ومن شدة سعادته حاولَ المشي على الحبلِ بقدمٍ واحدةٍ
لتأكيد مهارتَه، ولكنه فقد توازنه وسقط، وجاء وقوعه فوق ظهر الفيلِ الذي كان يقوم
ببعضِ الحركاتِ الاستعراضيةِ الصعبةِ من خلال أوامر مدربه.
الغرابُ وجدها فرصةً للراحةِ فوقَ ظهر
الفيلِ، وظنّ جمهور السيرك أنه سيقدم فقرةً جديدةً، فصفّقوا له، وفي هذه اللحظة، نسي جوعَه وتعبَه
وهمسَ لنفسِهِ: «ياه.. ما أجمل أن
يقدّرك كل هذا الجمهور، الكبار، والصغار، وأن تشعر بمحبتِهِم». ولذلك تحامل على نفسِهِ، وحنجل في مشيتِهِ ثم وقف بقدم واحدةٍ على
ظهر الفيلِ، ولكنه كاد أن يسقطَ، فتشبّثَ ممسكًا بأذنِهِ، وفي اللحظةِ نفسِها،
كان الفيلُ قد حرّكَ خرطومه وأمسكه به ثم قذفَ به لأعلى، فأصدرَ الغرابُ أصواتَ
استغاثة عندما جاءت سقطته فوقَ الطربوشِ الأحمرِ لمدرّبِ الفيلِ فارتفعت أصواتُ
التهليلِ والاستحسانِ تشجيعًا
له، وشعر كلُّ مَن يعمل في السيركِ بأن الغرابَ زميلٌ جديدٌ انضمّ إليهم، فتفاءلوا بنجاحِهِ من أول يومٍ له في العملِ.
أما الغراب نفسُه، فكان لا يصدّق ما
يراه وما يسمعه، فهمس لنفسِهِ: «إنني محبوبٌ.
لقد اكتشفت ذلك. إنني محبوبٌ».
ومنذ ذلك اليوم، اقتنع الغرابُ
بأنه يجب عليه أن يهتمَّ بتحسين معاملتَه لغيرِهِ دون تعالٍ، أو تكبّرٍ، فالتعاملُ الطيبُ مع جميعِ
الكائناتِ يزرعُ الألفةَ والمحبةَ بينهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق