السبت، 2 أبريل 2022

ماذا يحدث عندما نكبُر؟


عندما نكبر   

يقضي الإنسان سنوات طفولته بالتعلّم واكتساب المعارف المختلفة من الأسرة (الوالدين، الإخوة الكبار، المربّية)، والمدرسة (المعلمين والأصدقاء)، والحي والنادي (أقرانه وجيرانه ومدرّبيه)، لتتشكل بذلك البذرات الأولية لشخصيته كفرد اجتماعي فاعل بالمجتمع.

وفي سنوات شبابه، يسعى إلى تأكيد وجوده في محيطه الاجتماعي من خلال الأقوال والأفعال التي اكتسبها في المرحلة السابقة، وتشكّل في لحظته سلوكه الذي هو انعكاس للقيم والمبادئ والمعتقدات التي ألِفها وتبنّاها ووضعها كنسق فكري ليمضي بها قُدمًا بالحياة.

بين الطباع الفطرية والمكتسبة والمبادئ والقيم المجتمعية، يشقّ الفرد البالغ المسؤول حياته وينطلق بمعاملاته، ويبني تعاملاته مع كل من حوله أينما كان ووجد، فأحدهم عصبي المزاج، ويمكنه التحكّم بانفعالاته بالخارج، لكونه يراعي صورته الاجتماعية، فهو ذو مركز مرموق، عُرف برصانته ودقّته بالمواعيد وكذلك مظهره الخارجي الأنيق، وعليه قد يكون قليل الكلام والابتسام، جادّ لا يحبّذ مجالسة المستهترين أو مَن يخالفونه في الطّباع، يميل إلى الهيئة الرسمية في الزي والمحادثات.

مساحة الترفيه والتسلية في يومه لا تكاد تكون موجودة، فهو إن كان زوجًا وأبًا، فعادة ما تعتريه الصورة التقليدية لهذه الأدوار الاجتماعية، يفرض وجودُه الصمت، وينتفي بحضوره المزاح، ما لم يكن هو مُطلقه والبادئ به والراغب في حدوثه.

هذه الشخصية الرتيبة قد تعتري الجنسين من ذكور وإناث في كل المجتمعات العربية والأجنبية، إلّا أن هناك تفوّقًا واضحًا وصريحًا في مجتمعاتنا العربية، إنها شخصية موجودة وقريبة منّا جميعًا لا نكاد نتذكرها إلّا، وتظهر لنا وجوهًا عديدة لها، قد تكون في أمّ، أو ربّ عمل، أو أخت كبيرة، أو صديق مقرّب، أو أحد الأبناء.  والمزعج في الأمر أن هذه الشخصية تجعل مَن حولها شديدي التحفّظ في التعامل معها، درءًا لأيّ انزعاج قد يرجّ كيانها، وتغضب وتظهر العصبية بالفعل والقول، ويحدث ما لا تُحمد عقباه. كما أنّ هناك أمرًا آخر يكاد يكون أكثر إزعاجًا، وهو عدم تقبُّل الآخرين لأيّ تغير في تلك الشخصية، وإن كان طفيفًا، بمعنى أن أيّ انفتاح نوعي فيها يخلق ردّة فعل صادمة عند الآخرين ممن اعتادوا جموده ورتابته. وهنا نتوقف لنتساءل: كيف حدث ذلك؟ ما الذي استجد للتغيير؟

خبرات متنوعة

وبعيدًا عن أسبابه ومنطلقاته، ودون الأخذ بحيثياته، فقد لفتت عدة دراسات إلى الأسباب الباعثة على التغيّر في شخصية الفرد ومنها اختلاف المكان الجغرافي، وطبيعة الطعام، وتحسّن الوضع الاقتصادي، وأمور كثيرة، إلّا أن أكثرها واقعية وأقربها للتجربة وأصدقها هو رحلة التقدّم بالعمر وما صادفها من تجارب ومواقف رسّخت لدينا خبرات مختلفة ومتنوعة، بغضّ النظر عمّا إذا كانت مؤلمة أو مفرحة، أتت بنتائجها أم خابت في استنتاجاتها، لكن يكفي أنها استطاعت أن تغيّرنا وتزعزع تلك القناعات الراسخة فينا منذ عدة عقود.

«أصبحتُ هادئة... لا أعلم لماذا»... هكذا أجابتني إحداهن ونحن نحتفل بتخطّيها حاجز العقد الخامس، علمًا بأنها لم تكن يومًا كذلك ولا حتى في طفولتها، الصراخ، والصوت العالي والشجار والتعبيرات الحركية الكثيرة باليدين كانت سماتها، لكنّها فعلًا تبدلت، يبدو أن الحياة لقّنتها دروسًا عظيمة، بعد أن كانت تختلف مع أولادها على نوعية الطعام والتخصص الدراسي، بل وحتى وجهات التنزّه والترفيه، سمعتها بأذني وهي تقول لهم: «حسنًا... لكم ما تريدون».

«دعوا الخلق للخالق»... أعرف هذه المقولة جيدًا، لكنني لم أتخيل أن يقولها يومًا ما ذلك الشخص الذي لطالما أطلق عليه لقب «السيكوباتي»، ظنًا ممن عرفه بأنه ليس على ما يرام نفسيًا لغرابة طباعه التي يتسيّدها الشك في كل ما يسمع، لقد تجاوز السفسطائيون بمحاججته للآخرين.

إنه شديد الإنصات وكثير الكلام والتعقيب خاصة، سريع البديهة والحركة أيضًا، دقيق جدًا في استخدام الألفاظ والتعابير، شديد الثقة بنفسه. لديه قدرة رهيبة على تحليل وتفسير كل ما تقع عليه حواسه؛ سواء لكلمات الآخرين أو سلوكياتهم، وغالبًا ما كان يقرأ أفكارهم ويتنبأ بمواقفهم ويحدد نواياهم أيضًا. «بعد نصف قرن من الحياة على كوكب الأرض ومخالطة طبائع البشر، وجدت أن الأمر غير مُجدٍ... يقولون: «مَن حلّل الألماس وجده فحمًا»، هكذا صرّح حين سألته عن سبب تغييره، وعن السلام والراحة اللذين طغيا على مظهره.

تغيّرات مدهشة

«أنا أبحث اليوم عن الألوان البرّاقة والأكثر إشراقًا، أنا من عشاق اللون الأصفر والزهري؟!» كانت تلك الصدمة الأخرى التي تلقّيتها ممن انتصف عقدها الرابع، واعتادت الكآبة والسوداوية في كل مواقف الحياة الواقعية وحتى الخيالية، لقد فاقت نظرتها للأمور سوداوية دوستويفسكي. كانت تقدّس اللون الأسود و«شقيقه» البنّي الداكن، وحين تشتد بها الحال وترغب في مشاركة الآخرين أفراحهم، تتزين باللون الكُحلي وأحيانًا الزّيتي. لقد تغيّرت بشكل ملحوظ ومرئي، وكأنها تريد التصريح بأمر ما، كالقول بأنها فاتها الكثير من الألوان والمسرّات!!

 بعد أن تلقيت دعوة على الغداء لا توصف إلّا بـ«الكريمة جدًا» ممن كان شديد الحرص في الإنفاق والصرف، مدقق حسابات العائلة، لا يسمح لـ «الفلس» أن يفلت منه في غير محلّه، كانت المفاجأة والتساؤل: كيف سينفق مبلغًا وقدرُه على وليمة لأفراد عائلة قد تتجاوز الـ 40 فردًا؟! لا بدّ أنه يعيش أيامه الأخيرة! حتمًا إنه يشعر بأنه يحتضر ويودّ أن يقيم وداعًا يليق بكونه عميد العائلة. علمًا بأنه ليس بخيلًا، لأنّه يقطن بمنزل جميل في حي راقٍ، يمتلك أفخم السيارات، لكنّه رجل اقتصادي بحت، فمثلًا لم يكن ممن يُغدقون على ذويهم الهدايا والعطايا، وليس ممن يدللون أبناءهم ويتكفّلون بهم بعد بلوغهم سنًّا معيّنة.  كل ذلك دفعني للسؤال عمّا حدث وما الذي يحدث... أجابني:

رَأَيـتُ سَـخِـيَّ النَـفـسِ يَـأتـيـهِ رِزقُهُ

هَنيئًا وَلا يُعطي عَلى الحِرصِ جاشِعُ

وَكُـــلُّ حَـــريـــصٍ لَن يُـــجــاوِزَ رِزقَهُ

وَكَــم مِــن مُــوَفّـى رِزقَهُ وَهـوَ وادِعُ

أنماط سلوكية كثيرة نراها تتغير من حولنا لأشخاص عرفناهم وقضينا معهم سنوات، مرّت لحظات كنّا نتساءل: كيف سيعيش بهذه الطباع طوال عمره؟ هل سيجد مَن سيتحمّله ويتقبّله؟ كيف سيواجه الحياة بتقلباتها وأقدارها؟ وكنّا ندعو لهم أيضا بالاعتدال بكل شيء وبالتغيير للأفضل، والتكيف مع الواقع وتقبّله.

التغيير آت

يقول عالِم النفس في جامعة أدنبرة رينيه موتوس: «الخلاصة تتمثل تحديدًا في أننا لن نبقى الشخص نفسه طوال حياتنا». يقول موتوس في هذا السياق: «يصبح الناس أكثر لطفًا وقدرة على التكيّف الاجتماعي. كما تزيد قدرتهم باطّراد على الموازنة بين ما يتوقعونه من الحياة والمطالب المجتمعية». وتقول أمي: «كل قاسٍ من الزمان يلين» قد لا تكون هذه مقولتها، لكنّها طالما رددتها بيقين بأن التغيير آت، واللين هي الحال التي سنؤول إليها، والقسوة زائلة بفعل عامل الزمن.

وبين قسوة الإنسان ولينه وجدت أن مرور السنوات على ذواتنا يشبه ارتطام الأمواج بصخور الشاطئ، فالأمواج تأتيها في كل مرة بقوة وسرعة متفاوتة لتصدمها بشدة تارة وبلينٍ تارة أخرى، لكنّها تتوالى عليها دون توقّف فتغيّر جغرافيتها وتنحت شكلها، وتضيف إليها بعض الألوان أحيانًا، جاعلة منها صخورًا مختلفة في كل فترة زمنية، قد نراها نحن أشكالًا جميلة وانسيابية، ويراها من بعدنا أشكالًا ضخمة ومرعبة، وهكذا، لكنّ الحقيقة أن الأمواج أو الزمن لم يُقصد منهما التشكيل والتغيير بذاته، ولا الصخور تعي أنّ عليها مواجهة الأمواج لتصنع منها أشكالًا، بل كلّ ما في الأمر أن هناك استسلامًا لما يحصل، وقبولًا له، والسماح للأحداث الزمنية بالمرور.

التخلي عن المقاومة

إن الإجابة عن السؤال: ماذا يحدث عندما نكبُر؟ وجدتها وفقًا لخبراتي الحياتية المتواضعة تكمن في التخلي عن مقاومة حدوث الأشياء التي لا نريدها، فعلى سبيل المثال، نحن نقاوم أوقات الفراغ، فنعمل ليلًا ونهارًا حتى تجهد أجسامنا ونتعب، نحن نقاوم الإهمال بالعلاقات الاجتماعية، فنفتعل المواقف والأحداث التي تُدخلنا متاهات لا نهاية لها، وهكذا. حين نكبر نكون قد امتلأنا بالخبرات والانفعالات، حين نكبر تكون حصيلتنا من المقاومة كبيرة، حين نكبر نكون قد بلغنا من التعب والشقاء مبلغًا لا يُستهان به، حين نكبر نوقف المقاومة، فنستسلم. إن الحالة الأولى التي أصبحت هادئة، كانت دومًا تقاوم تفوّق الآخرين عليها، كان لديها هوس السيطرة على كل مجريات الحياة المتعلقة بها وبمن حولها، وحين تخلّت عن ذلك سكنت حواسّها وهدأت، وبدأت بالتركيز على وجودها، فسمحت للزمن بصقلها وسمحت للآخرين بالعيش بحريّة.

والحالة الثانية كان يقاوم الجهل، فلم يسمح لأيّ شاردة أو واردة بالمرور بسلام أمامه، لقد تدخّل بأدقّ تفاصيل حياة الآخرين، محاولًا معرفة كل شيء عن كل شخص، لقد انشغل بهم كثيرًا وطويلًا، حتى أهمل نفسه وفقد الاتصال بها، فأعاده الزمن لنفسه ليتفكّر بأحوالها. أما الحالة الثالثة فقد كانت مقاومة للفرح، كانت تستكثر على نفسها الشعور بالسعادة، وأن تحظى بأجواء سلسلة مبهجة، لقد حاربت الفرح بالخارج كما الداخل، فاعتلى وجهها العبوس واكتسى جسمها بالألوان القاتمة، وفشلت بعد أن مرّ وقت طويل كئيب، فاستسلمت وتقبّلت حتى أيقنت بمضيّ العمر كلمح البصر، وعندها خضعت لنفسها وعاشت ما تبقّى منه بالألوان.

والحالة الرابعة كان يقاوم الفقر بكل ما آتاه الله من رزق، لكنّ مرور الزمن أظهر له أن العائلة رزق، والصحة رزق، والرضا أيضًا رزق. والغنى شعور لا يختلف عن الفقر، مسكنه النفس قبل الحساب البنكي، فاستسلم وأنفق ليحيا حياة كريمة. للدكتور صلاح الراشد مقولة جيدة، وهي «أولى مراحل التشافي وقف المقاومة والتسليم»، ولأنّ للمراحل أوقاتًا وأزمنة، علينا الإيمان بفاعليتها وقُدرتها على شفاء أنفسنا مما يُتعبنا.

المصدر:1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

سنة الزواج الأولى وعواصفها

الكتابة للأطفال ليست ترفاً

سيكولوجية الموضة

موقع طفلك بين القيادية والتبعية

حياتنا اليوم وفن المحادثة الضائع

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق