الاثنين، 25 أبريل 2022

• في استرجاع عادة الاستعارة من الجيران

 


 الاستعارة من الجيران

يقول بولونيوس، مستشار الملك هاملت في مسرحية «هاملت» لوليم شكسبير: «لا تستدين ولا تُدين، لأنك ستخسر نفسك وتخسر صديقك»، وبغضّ النظر عمّا إذا ما كان بولونيوس منافقًا كبيرًا ومن بين الأشخاص الأكثر فسادًا في الدنمارك، تبدو نصيحته هذه صحيحة في كثير من الأحيان.

 لكنّها لا تنطبق على كل جوانب الحياة، لا سيما على تعامل الجيران فيما بينهم، لأن عادة الاستعارة والإعارة بين الجيران تمثّل ظاهرة مهمة من ظواهر التفاعل الإنساني في تاريخ البشرية، وتنبع أهميتها من كونها وسيلة مهمة لبناء الصداقات وتحفيز التواصل بين البشر وتعزيز روح الجماعة، كما أنه ظهر أنها من الدعائم الأساسية لاقتصاد المشاركة الذي بدأ الحديث عنه في الآونة الأخيرة.

لطالما كان الاقتراض من الجيران ممارسة شائعة في الماضي، وكانت تلك الممارسة جزءًا من شبكة العلاقات القائمة بين الناس وبين من كانوا يعيشون بالقرب منهم، حيث لا شيء في البيت كان يخصّ سكانه وحدهم، بل كان للجيران نصيب فيه، إن كان قدرًا أو سطلًا أو سلّمًا أو حبل تغسيل، أو حتى أنه كان يمكن للجيران أن تكون لهم حصة في الملابس أيضًا، إذ كانت النسوة في الحارات يُعرنَ ويستعرنَ ثيابًا، لا سيّما إذا كانت إحداهن مدعوة إلى عُرس وليس في مقدورها أن تُفصّل وتُخيّط ثوبًا، فكانت تلجأ إلى إحدى جاراتها لتستعير منها ثوبًا يصلح للمناسبة.

وقد يكون في أساس ذلك كله، لا سيما في البلاد العربية، أن النبي وصّى على الجار، وقد يكون أيضًا أنه قبل الثورة الصناعية التي أسست لنشوء وسائل النقل السريعة، وساعدت في انتشار متاجر البقالة، لم يكن الحصول على جميع لوازم المطبخ أمرًا سهلًا، إذ إلى وقت قريب كان العديد من الثقافات، خاصة الثقافات الريفية، لا يزال يعتمد على الأسواق الأسبوعية والباعة المتجولين وإنتاج سلعه الخاصة، لذلك كان لابد أن يحصل نقص معيّن في مؤونة البيوت، وكان من العادي أن ترسل الأم ولدها ليدقّ باب الجيران في طلب القليل من السكّر أو الزيت أو البنّ أو غيره.

ومن الأمور التي كانت تستدعي أيضًا قرع باب الجيران أنه لم يكن لدى العديد من المنازل أفران للطهي، أو أنها كانت لا تمتلك سوى مواقد صغيرة لم تكن تكفي لصنع الخبز وطهي أطباق متعددة في الوقت عينه، فكان لابد ممن يمتلك فرنًا أن يترك مجالًا لطبق إضافي يعود إلى أحد جيرانه.

ولكن مع تصميم مدننا المترامية الأطراف، واعتمادنا على التكنولوجيا الحديثة والصناعة في عديد من أنحاء العالم اليوم، لم يعد معظمنا بحاجة إلى التفاعل مع الجيران للحصول على ما ينقصنا، لكن هذا التفاعل الاجتماعي، وإلى وقت قريب من تاريخ البشرية، كان يرسم إيقاع الحياة في عدد من الأحياء والقرى بطريقة جميلة ولها فوائدها على الصُّعد كافة.

ممارسة صديقة للبيئة

يقول لورانس ألفاريز، المؤسس المشارك لـ مستودع المشاركة في تورنتو، المستودع الذي يعمل كأول مكتبة للأشياء في كندا، إنه لا يمكن لكوكب الأرض أن يوفّر لنا جميعًا كل ما نحتاج إليهب.

ويعتبر قوله هذا في صلب الأفكار التي يبنى عليها اقتصاد المشاركة الذي يعتمد على مبدأ االاستهلاك التعاونيب الذي يدعو إلى تشجيع استئجار الأشياء واقتراضها بدلاً من شرائها، من باب استخدام عدد أقل من الأصول للقيام بأمور مماثلة. ومن أجل ذلك وللحفاظ على الموارد البيئية، ظهرت هنالك دعوات عديدة حديثة تشجع على استرجاع عادة الاقتراض من الجيران، من بينها دعوة الكاتبة سارة لازاروفيتش، التي كتبت مقالة مهمة في مجلة Sure، تستكشف فيها فكرة الاستعارة، وضمّنتها رسومًا توضيحية عرفتنا فيها على ما يسمى بـ اهرمية الاحتياجاتب.

وكانت لازاروفيتش قد استوحت فكرتها هذه من التسلسل الهرمي للاحتياجات الذي تحدث عنه عالِم النفس أبراهام ماسلو، الذي حدد فيه نظرية تقول إنه يجب على البشر أن يلبّوا احتياجاتهم الأساسية بترتيب معيّن من أجل تحقيق ذاتهم، أي من منظور جديد للاستهلاك يعتمد على الاستهلاك الواعي، والاكتفاء بالحد الأدنى من المشتريات، حيث تأتي المبادلة والاستعارة بعد الشراء وصنع الأشياء التي نحتاج إليها بأنفسنا، أو بالأحرى عندما يصبح الشراء ضرورة في أعلى الهرم فقط عند استنفاد جميع الخيارات الأخرى.

محاربة مشكلة العزلة

ومع ذلك، أبعد من المساهمة في اقتصاد المشاركة والعيش بأسلوب حياة مستدام، هناك أشياء أعمق يمكن للاقتراض من الجيران المساهمة فيها، إذ يفتح قرع باب الجيران وسؤالهم عن إمكان استعارة شيء ما، بابًا مباشرًا للحوار وإمكان للتواصل وفرصة لشخص ما للكشف عن مدى كرمه، فضلًا عن إكمال مهمة ما بسهولة أكبر.

وأجمل ما في عادة الاستعارة والإعارة من الجيران أنها تساهم في إرساء ثقافة المشاركة، والاستثمار في الأشخاص الذين يسكنون حولنا، والذي يخلق، في المقابل، مجموعة أكثر أمانًا وتماسكًا. أي أنها تعزز ما يسمى برأس المال الاجتماعي الذي أول ما تحدث عنه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في ثمانينيات القرن العشرين في 1983 ومن ثم عالم الاجتماع الأميركي جيمس كوليمان في 1988، قبل أن يبدأ البنك الدولي في استخدام هذا المصطلح في عام 1997، ليحدد درجة اتصالنا بالآخرين.

وتؤكد الأبحاث أن ما يفتقر إليه كثير من البشر في هذه الأيام هو رأس المال الاجتماعي، حيث أصبحت العزلة الاجتماعية وباء متناميًا، كما بات هناك اعتراف متزايد بأن لهذه العزلة عواقب بدنية وعقلية وعاطفية وخيمة. وتشير موجة من الأبحاث الجديدة إلى أن الانفصال الاجتماعي يتسبب في اضطراب بالنوم، وخلل في جهاز المناعة، ويزيد من إمكان التعرض للالتهابات، إضافة إلى ارتفاع مستويات هرمونات التوتر.

تدهور معرفي

وجدت دراسة حديثة أن العزلة تزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 29 في المئة والسكتة الدماغية بنسبة 32 في المئة. هذا من جهة التأثيرات الجسدية؛ أما من جهة التأثير الفكري، فيمكن للعزلة أن تسرع التدهور المعرفي لدى كبار السن، وذلك وفق بحث قُدّم في المؤتمر الدولي لرابطة الزهايمر لعام 2015، حيث أكدت فيه الطبيبة النفسية نانسي دونوفان، التي تعمل في كلية الطب بجامعة هارفارد، أن الشعور بالوحدة عامل خطير يؤدي إلى التراجع المعرفي المتسارع عند البالغين الأكبر سنًّا.

 وأكثر من ذلك يصبح الأفراد المنعزلون أكثر عرضة للوفاة قبل الأوان، مقارنة بالذين يقومون بتفاعلات اجتماعية أكثر قوة، وذلك وفقًا لتحليل جمّع بيانات من 70 دراسة و 403  ملايين شخص، وجد أن الأفراد المنعزلين اجتماعيًا معرّضون لخطر الموت بنسبة 30 بالمئة في السنوات السبع المقبلة من عمرهم، وأن هذا التأثير كان أكبر في منتصف العمر.

فالناس مخلوقات اجتماعية تزدهر وتتطور من خلال التفاعل الاجتماعي فيما بينها، حيث إن حتى المحادثات العابرة وحتى الثرثرات الصغيرة التي لطالما كانت لها سمعتها السيئة، وحتى الحديث عن الطقس مع المارة الغرباء، تجعلنا أكثر سعادة وتساعد على تحسين مزاجنا.

فكيف إذا كان هذا التفاعل مع أشخاص لهم وجود ثابت في حياتنا ويعيشون في محيطنا الجغرافي نفسه، مما يزيد من إمكان بناء الصداقات وتعميق العلاقات المُثرية؟

محادثات صغيرة

لتأكيد هذه الفكرة أجرى أستاذ العلوم السلوكية، نيكولاس إيبلي، دراسة في شيكاغو على مجموعة من الأشخاص، حيث كلّف البعض منهم، على فترة زمنية محددة، إجراء محادثات صغيرة مع جيرانهم، ولم يسمح للبعض الآخر بالقيام بها، فلاحظ أنه حتى أولئك الذين قالوا إنهم لم يكونوا على استعداد للقيام بهذا التفاعل أكدوا أنهم شعروا بسعادة أكبر عندما تواصلوا مع جيرانهم.

ومن خلال ذلك أكد إيبلي أنه: يمكن للناس تحسين رفاههم ورفاه الآخرين من خلال كونهم اجتماعيين أكثر، وبمحاولتهم التواصل مع الآخرين بدلاً من اختيارهم العزلة.

ما نفتقده اليوم من خلال الابتعاد عن عادة الإعارة والاستعارة بين الجيران واختيارنا العمل بالمثل القائل: اصباح الخير يا جاري، أنت في حالك وأنا في حاليب، هو التواصل مع أشخاص آخرين وتنمية علاقات مشبعة تعزز من نحن.

إن الاتصال الإنساني الحقيقي، وليس الرسائل النصية، ولا رسائل البريد الإلكتروني، ولا الرسائل الصوتية هي التي تمنحنا طريقة لتقديم أنفسنا والتعلّم من الآخرين كيف يمكننا أن نكون أشخاصًا أفضل. فعلى الرغم من أنه اليوم أصبح من الأسهل والأرخص من أي وقت مضى الحصول على كل ما نحتاج إليه دون اللجوء إلى الاستعارة من الجيران، فإنه تجب استعادة تلك العادة، لأنه يجب ألا ننسى كم هو جميل أن نكون جزءًا من عائلة أوسع تمتد خارج جدران منازلنا .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

السعادة دهشة الحياة وسحرها

التصرفات الخاطئة... خلع الكتف والكوع عند الأطفال

طعامك يدل على شخصيتك

سيكولوجية السوبرماركت

التعامل مع الطفل الحساس... 6 استراتيجيات

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق