الأربعاء، 6 أبريل 2022

• لماذا توقفت الأمهات عن الغناء


الأم لا تغني

«ناااااام نومة هنية... والغزلان بالبَريَّة»... 
لم تعد نومة أطفالنا بهذا الهناء الذي كان، منذ أن توقفت الأمهات عن الغناء، ربما لأنّه لم تعد البَريَّة مثلما البَريَّة، بعد أن تركها الناس، واختبأوا داخل الغرف المركزية التكييف، واستلبت عقول أطفالنا أجهزة التابلت والموبايل وقصص الكارتون المدبلج، وأغنيات الأبجدية
abc، وربما لأنّ البَريَّة قد خلت من الغزلان.

لماذا توقّفت الأمهات عن الغناء؟ من المؤكد أن عاطفة الأمومة لم تضعف داخلهن، التي كانت تجعلهن يغنّين لأطفالهن، قبل النوم وحين الاستيقاظ، وقتما يلعبون أو يبكون، وحين يأكلون أو يرقصون أو يلبسون جديدًا.

بالله كيف حرمنا أطفالنا وحُرمت نساؤنا أنفسهن من هذا الخيال! ومن إيقاعات موسيقية بسيطة وخلابة، تدغدغ أحاسيس الأم قبل طفلها، ثم يندهشون من انحدار الذوق الموسيقي لدى شعوبنا العربية، وضعف الأذن الموسيقية، التي كانت تتربى، منذ المهد، على هذه الإيقاعات والأنغام النابعة من خصوصية مجتمعاتنا العربية.

 التهويدة الأولى

يُطلعنا الباحث في معهد الأشوريات والدراسات القديمة، البروفيسور صموئيل نوح كريمر، على أول تهويدة في التاريخ، تهويدة سومرية عثر عليها في جنوب العراق، ترجع إلى خمسة آلاف سنة، ولم تكن واحدة، وإنّما مجموعة من التهويدات تبدأ الأم مخاطبة النوم، كي يلقي بسلطانه على عيني طفلها، فتترنم:

تعال يا نوم تعال أيها النوم

تعال إلى حيث تجد طفلي راقدًا

أسرع أيها النوم وزرنا حيث يهجع ولدي

دعه يغلق عينيه اليقظتين

ضع يدك على عينيه المكحلتين

وبالنسبة للسانه الذي لا ينقطع من التصويت

فأمسك به ولا تدعه يوقظ العينين

ثم تنتقل الأم إلى مخاطبة طفلها، بعد أن انتهت من توجيه كلامها للنوم، وتعد طفلها بمكافأة، سيضعها النوم في حضنه:

النوم سيملأ حضنك بالحلوى

وأنا سأحلّي لك قطع الجبن الصغيرة

هذه القطع الصغيرة التي تشفي الرجال الكبار

الفراعنة يغنّون للولد والبنت

 إن أشهر أغنية رمضانية غنّاها الأطفال في مصر منذ قرون وحتى والآن، لها طابع احتفالي، تعود كلماتها إلى اللغة الهيروغليفية، السائدة في العصر الفرعوني، وهي أغنية «وحوي يا وحوي... إياحا» ومعناها «مرحى بالقمر»، ولم تأت هذه الاستعارة اللغوية من فراغ، فلقد كان للمصريين القدماء باع كبير في مجال الموسيقى والغناء، إلى الحد الذي كان ينظرون إليهما نظرة التقديس، وارتباطهما العميق بالعبادة في مصر القديمة، إلى جانب أنشطة أخرى اقتصادية وعسكرية واجتماعية، وكان الغناء للطفل إحدى هذه التجليات الموسيقية، وسنلاحظ أن أهازيج الهدهدة في ذلك الزمن، ذات موضوعات تعكس خصوصية المجتمع في زمن الفراعنة، وأنساقه القيمية، وما وصلنا من تهويدات الأمهات والمرضعات، للأطفال في ذلك الزمن، تدلّل على  أن  قيمة البنت في المجتمع، لم تكن أقلّ من قيمة الولد، إلّا أن نصيب الولد من هذه التهويدات كان أكبر، وهي تهويدات ما تزال إلى الآن متداولة على المستوى الشعبي، إلى الحد الذي تخطّت وظيفتها كهدهدة إلى مثَلَ شعبي، مصاغ بأسلوب شعري، يستشهد به في سياقات تتحدث عن قيمة الولد والبنت في الذهنية الشعبية المصرية، فهكذا كانت تهدهد الأمهات أطفالهن الذكور قبل النوم بالهيروغليفية، بعد أن قام المصريون بتعريبها ونظمها على مثال الشِّعر الشعبي:

لما قالوا ده غلام... اشتد ضهر أبوه ونام

وجاني الحبايب هنوني... ومن فرحتي ما جاني منام

وتغني لابنتها عند النوم، تنمّي فيها ثقتها بنفسها، وتذكر نفسها قبل ابنتها بنعمة الخالق عليها، عندما أنجبت هذه البنت:

لما قالوا دي بنية...  قلت يا ليلة هنية

بنتي الحبيبة أهي جايّة... تنفعني وتحنّ عليه

هذا التوسط في النظر إلى قيمة البنت والولد في المجتمع، حتى وإن كان الكمّ الأكبر من التهويدات التي وصلتنا من العصر الفرعوني للذكور، نرصده بعد قرون في أهازيج لشعوب وحضارات، جاورت هذا الحضارة المصرية العريقة، ربما كان نتاج تأثّر غير مباشر، فتغني الأم التونسية والجزائرية، مما يُعرف بأغاني «الربَّاج» و«التراري»، والتي تكاد تندثر لولا قيام المؤسسات الثقافية بأرشفتها وحفظها:

سعدي سعد سعدي سعد   بنتي خير من ألف ولد

سعدي بيها سعدي بيها   والخطابة تخطب فيها

سعدي سعد وسعدي سعد   زين ولدي ما جابوا حد

سعدي بيه سعدي بيه   اندق الحنّة وانحنيه

ثم تواصل الأم وصفها لابنها، الذي كبُر واشتد عوده، وأصبح يجوب السهول والجبال بكل شجاعة، فمن جبال مليلة المشهورة بغاباتها الكثيفة، وسكانها الأبطال، إلى جبال القل التي تمتاز بوعورتها وصعوبة مسالكها:

أيسعدي يانا وقالوا لي عتعوت    انجيب له لعروسة ويعمر زوج بيوت

اي سعدي يانا وقالوا لي أكبر    أغداه لمليلة وعشاه برغل

 ينكز من مليلة لطرف القلّ

وتغني الأم الجزائرية لابنتها:

نني نني يا بشة    كل عصفورة في العشّة

نني نني ليكي نغني    تكبر بنتي وتتمشى

ويذكر د. محمد الجويلي، هذه الربَّاجة التونسية التي يمكن للأم أن تغنّيها لولدها ولابنتها، عندما تتطلب الحال:

 نني نني جاكي النوم

أمكي قمرة

وبوكي نجوم

أو حين تقول:

يا بنَّانة السردوك (الديك)

جيب النوم يرحم بوك

لكنّ هذه «الربّاجة» نراها موجهة بشكل خاص وواضح إلى البنت وليس الولد:

لالي بيها ولا لي بيها...  زيت الساحل لقطاطيها (لشعرها)

يا مرحبًا تراحيب بالمسك مخلوط بالطيب...  يا مرحبًا بالبتّ اللي سعدها مبخت

يا مرحبًا قال بوها وفي الكسا خيّروها... من كل غالي كسوها لبس الدْوَل لبّسوها

التراث اليمني حافل أيضًا، باحتفاء الأم بابنتها، متمثّلة في أغنيات مهد، غاية في الرهافة والرقة، والاعتزاز بالبنت:

هلا هلا بالطرشي... لطوفة تجينا تمشي

وتغني أيضًا لطفلتها:

غنيمة من تمرّ بتراجيها الحمر...  يبسط بو حلاوة ويعزل بو التمر

العرب يغنون للنبي طفلًا

ورد في كتاب «الإصابة»، كانت حليمة السعدية رضي الله عنها، مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، تحبّه حبًا جمًا، إذا ما رقصته غنّت قائلة:

يا رب إذا أعطيته فابقه

وأعله إلى العلا ورقّه  

وادحض أباطيل العدا بحقّه

وفي «الإصابة» جاء أن الشيماء رضي الله عنها، أخت النبي صلى الله عليه وسلم في الرضاعة، كانت ترقّصه وهي تغني له:

يا ربنا ابق لنا محمدا

حتى أراه يافعًا أمردا

ثم أراه سيدًا مسوّدا

واكبت أعاديه معًا والحُسّدا

واعطه عزًا يدوم أبدًا

لم يكن ترقيص وغناء حليمة والشيماء رضي الله عنهما، للنبي صلى الله عليه وسلم، إلّا قطعة فنية من فسيفساء، تشكلت على مدى قرون بالصحراء العربية في الزمن الجاهلي، وما تلاه من أزمنة، انحازت بشكل سافر إلى الذكور، لظروف موضوعية، فرضتها بيئة قائمة على الصيد والغزو والحرب ونظام القبيلة، وقبلت بها المرأة مثلما الرجل في هذه البيئة، فالترقيص والتهويد ما هو إلّا نشاط فني أنثوي، إنتاجًا وفعلًا، وروي أن أعرابية تزوجت ولم ترزق بولد، فكانت تتمنى أن يكون لها ولد شبيه بالأسد، يدافع عن قومه ويحمي عشيرته، فكانت إذا رقَّصَت أحد أبناء الحي قالت:

يا حَسْرتا على ولدْ... أشبه شيء بالأسدْ

إذا الرجالُ في كبدْ...  تغالبوا على نَكَدْ

              كان له حظُ الأسدْ

 في المعاجم اللغوية، كثير من الألفاظ الدالة على الحركات، التي كانت تأتي بها الأم، أثناء تنويم طفلها وملاعبته ومضاحكته، منها التنزيه والبأبأة والهدهدة والترقيص، وبرغم ما تحتويه هذه الأشكال الفنية من انحياز سافر إلى الولد، في البيئة العربية جاهلية وإسلامية، إلّا أنه لا يعني بحال من الأحوال، أنه لم يكن بين العرب مَن يعتز بالبنت ويحبّها، بل يفضلها بعضهم على الولد، وقد روى ذلك صاحب «محاضرات الأدباء» في معرض الحديث عن محبة البنات، إذ وصفت امرأة عربية محاسن ابنتها، فنعتتها بالطول، وقالت ترقّصها مشبهةً إياها بالنخلة:

سِبْحَلَةٌ رِبْحَلَلةْ

تنمي نبات النخلةْ

وروي أن للجاحظ في «البيان والتبيين»، عن أحد شيوخ الأعراب، أنه هجر خيمة امرأته، وكان يبيت ويقيل عند جيران له، حين ولدت امرأته بنتًا، وكانت المرأة لا ترى داعيًا لهذا الهجران، فكانت إذا رقصت طفلتها غنّتها بهذه الأغنية:

ما لأبي حمزةَ لا يأْتينا...  يظلُ في البيتِ الذي يلينا

غضبانُ ألّا نلد البنينا...  تالله ما ذَلِك في أيدينا

وإنّما نأخذُ ما يعطينا...  ونحن كالزرع لزارعينا

ننبت ما قد زرعوه فينا

وما قالته الأم العمانية بعفوية وطلاقة لغوية، بليغ في دلالته على الاعتزاز بالبنت وتقديرها، في البيئة الخليجية، رغم الانحياز للولد

هلَّيتي هلَّيتي...  محلاكي يُومِن جيتي

وانتِ عزيزة وغالية...  مَليتي علينا البيتِ

تراث الحمام حيًا ومذبوحًا في أهازيج الأطفال:

يا ربْ ينام يا ربْ ينام

وأدْبَحْلُه جُوزين حمام

ياكل ويقول كمان

ما تخافشي يا حمام

باضحك عليه لمَّا ينام

ولكي تبدع الأم هذه الهدهدة البسيطة، وتواصل ترديدها على مدى قرون، تحتاج إلى علاقة خاصة مع تربية الحمام، إلى حد أنسنته إبداعيًا، ومخاطبته ككائن عاقل، هذا الحمام الذي أصبحت تربيته في البيت العربي في ندرة الأحجار الكريمة! ولقد لاحظ الباحثون أن هناك تشابهًا بين بعض أغاني المهد فيما يخص الحمام عند شعوب البحر المتوسط، فبينما تبدأ أغنية المهد المعروفة في مصر هكذا، تبدأ الأغنية الإيطالية بكلمات مشابهة، وكذلك الأغنية الرومانية:

نِينَّا نام...  نِينَّا نام

وأدْبَحْ لك جْوزين حَمام

ومن تراث أهازيج الحمام في سورية، تهلّل الأم لابنها وهي تهزز له السرير:

نام يا ابْني نام... لادْبَح لكْ طِير الحمام

يا حمام لا تْصَدق...  عم كَذِّبْ على ابني ينام

وفي الأردن، مع اختلاف قليل في الصياغة، تغني الأم لطفلها حتى ينام:

 يا ابني نام...  لادْبَح لك طِير الحمام

يا حمامي لا تْخَافي...  باضحك على ابني تَيْنام

وفي فلسطين كان الطفل لا ينام، إلّا بعد أن تغني له الأم بحنان بالغ، وبهمس يليق باستدعاء النوم:

نِنِّي يا عِين مْحَمد يا عِين الحمام...  محمد بَدُّو ينام عاريش الحمام

أما حمام العراق، الذي تغنى به شعراؤه العظام، برمزيّته المحمَّلة بالسلام والمحبة، وبهديله الجميل، فيأتي في هذه التهويدة كحامل لسلطان النوم:

تنام وأنا اهدي لك...  والعافية من الله تجي لك

يا طيور ويا حمام...  دع حمّودي تاينام

وعاء ناقل للمعتقد والمذهب والموروث

إن المهاواة، والهدهدة، كذلك الترويدة، والتهويدة، والتهليلة، والليلوة، كلها مرادفات لهذا الفنّ الخلّاب، الذي يتميز باحتوائه لأصدق عاطفة منذ خلق الله الأرض، وهي «الأمومة»، عندما تمتزج الكلمات العذبة والصوت الناعم والهزّ الخفيف، مع معتقدات الأم الدينية، وموروثها من عادات وتقاليد، أو حتى الخراريف التي تعلّقت بها الأم في الطفولة، إنها في إحدى صورها عملية استدعاء لطفولة الأم، لتنسكب على طفلها بعذوبة بليغة، ولنتأمل في بساطة وبلاغة هذه الأم اللبنانية، وهي تهدهد طفلها للنوم، وكيف تنحت صورها الشعرية من بيئتها الطبيعية الخاصة، ومن تراثها الإيماني الذي يتّسم بالعفوية:

نام الله يا عيني...  ابني يا عنب زيني

يلا يلا يا دايم...  تحفظ عبدك النايم

تحفظ عبدك وتجيره...  وتخليه نايم بسريره

وهذه التهويدة من تراث «التراري» بالجزائر، يتّضح فيها المعتقد الديني بشكل واضح، والمتمثل في القرآن الكريم:

 وِلْدِي يَا زِينْ الِزينْ

كحَل الَحَاجَبْ وَالعِينْ

حَبّكْ رَبِي وِرْضَـاكْ

وِالقُرْآنْ دَايِـمْ مْـعَــاْك

وهذه امرأة عراقية ترقّص ابنها، وترقيه في الوقت نفسه، تخشي عليه الحسد، فتطلب من كل مَن يراه أن يصلّي على النبي:

 ألف الصلاة الْعَلْ نبي ...  يا عين حِيدي وجنبي

والمَخايط والإبر... بْعِين كل من افْتَــكر

من أنثيي لذكر... حتى عجوز مكَبْكَبي

والْمَاتصلّ عَلْ نبي...  اتْعُضْهَا حَيّ وعَقْرَبي

ثم تبدأ في استدعاء المعتقد والموروث المضاد والحامي من الحسد:

حصَّنْتك بالله من عِيني وعِين خَلْق الله

حصَّنْتك بالباري من عِيني وعِين عْيَالي

حصَّنْتك بِعِرْق الثُوم من عِيني وعِين كل مَحْروم

حصَّنْتك بالنِعْناع من عِيني وعِين الصُناع

 تصبيحات وترقيصات ومراجيح

لم يقتصر غناء الأم لطفلها على وقت ما قبل النوم، بل يُوجد عدد لا بأس به من الأغنيات التي يمكن أن نسميها «تَصْبِيحة» على الطفل، فتغني الأم في البحرين لطفلها أو طفلتها:

صْبَاحَكْ صْبَاحِين ... صْبَاح الكُحل في العين

صْبَاح يُطْرُد الفَقْـــــر... صْبَــاح يُطْرِد العِيــــن

صْبَــاح الناس مَرَّة... صْبَاحك عَشْـــر واتنين

بعد هذه التصبيحة المفعمة بالمحبة، تدخل الأم في حال من المتعة الشخصية، قبل أن تكون ممتعة لطفلها، عندما تبدأ في ترقيص الطفل على غنائها المُوَقَّع:

تُرْكُص تُرْكُص هَالبَدْرِيَّـة... جِنها غْزَالة بصحراء

برَّا والحاسد برَّا... يكفينا الباري شَرَّه

وتصبّح الأم العراقية على طفلها مؤكدة أنّ وجهه هو الخير كله:

صْباح الخير كُلُّو... على مَهْدك وجلو

وِلْمَــا يِتْصِبِح بوجهك... ما يشُوف الخير كله

ثم تبدأ الأم العراقية بترقيص طفلها، بعد أن قامت بالتصبيح عليه:

تِسْوى العرب والدِيرة... تِسْوى كُل العشيرة

تِسْوى الدنيا شَرق وغَرب... تِسْوى كنوز الجوْا والأرض

لكنّ هذه الأم الفلسطينية تصبّح على طفلها النائم في حضنها، موجّهة اللوم للصبح الذي يريد أن يوقظ طفلها الذي يملأ النوم عينيه، كما أنّه سيحرمها من احتضانه:

عينه ملانه النوم عينه... يا خيط الصبح يا مفرّق بيني وبينه

يا خيط الصبح يا مفرّق الخلان... يا ريت الصبح لا شقشق ولا بان

ولا يقتصر الغناء للطفل على استدعاء النوم، أو التصبيح عليه وترقيصه، بل مرجحته أيضًا، حتى يتوقّف عن البكاء وينام، كما تفعل الأم العُمانية:

نَيَّمْتَكْ بالمَرجوحة... عند الجَيّه والرُوحة

غنّي له يا مِليحة... بَلْكي عا صوتك بِنام  

شبابيك وأبواب إلكترونية

في زمن ما قبل الراديو ثم التلفزيون فالإنترنت، وسطوة الموبايل على الحياة اليومية في العالم، لم تكن المرأة في العالم العربي قادرة على التعبير بالصوت غناء أو إنشادًا أو سردًا، عن مكنونات عاطفتها كأنثى، إلّا في حيّز نسوي خاص، فكانت «أغاني المهد»، هي إحدى الطاقات الصغيرة المتاحة للمرأة للبوح بمكنون عاطفتها، فوجّهتها تجاه طفلها، لكن بعد دخول المجتمع العربي في عملية تحديث، شديدة التعقيد، لم تعد للمرأة طاقات صغيرة فقط، للتعبير عن مكنونها، بل امتلكت شبابيك وأبوابًا إلكترونية، ربّما لن يستطيع المجتمع العربي المحافظ، تحمل تبعاتها.

ليس هناك أجمل ولا أنبل من أن تنشغل المرأة بطفلها، ولا أرقى من أن تسكب عاطفتها على ضناها، الذي هو الستر للأم عند الكِبَر، تلمس ذلك في هذه الأرجوزة السودانية لأمّ تهدهد طفلها الرضيع:

النوم النوم

بكْرِيك بالدوم

اللول اللول وِلْدي الغالي

اللول اللول بسْتر حالي

يبقى تراث المهاواة وأغاني المهد لتنويم الأطفال من أكثر الأنساق الإبداعية تميّزًا فيها، وأقدرها على التعبير عن عاطفة الأم الجيّاشة، فتغنّي الأم الإماراتية، مهدهدة طفلها:

 هُوَّا هُوَّا يا ولِيدي... هُوَّا هُوَّا يا كْبِيـدي

أمي أمي في البستان... تٍقَطِّع خُوخ ورُمان

لم يكن تراجع فنّ الغناء للأطفال ووصوله في كثير من المناطق بالوطن العربي إلى حدّ الاندثار، نتيجة كارثة طبيعية، مثل التي أدت إلى انقراض الديناصورات مثلًا، وإنّما لأنّ هذا الفن له ارتباط وثيق بالمجتمع الزراعي والصحراوي، الذي انكمش إلى حدّ كبير، سواء بفعل التغيّرات الاقتصادية، التي أدت إلى انصراف اهتمام الناس بالنشاط الزراعي لمصلحة أنشطة اقتصادية أخرى، أو بسبب تحوّلات اجتماعية عميقة، حدثت للمجتمع العربي خلال القرن العشرين، فكان لنشأة وسائل الاتصال وتطوّرها دور عظيم التأثير في هذه التحولات، إيجابية أو سلبية.

بلاغة أنثروبولوجية

في عام 2002  نشرت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) ملخصًا لدراسة أجراها المجلس العربي للطفولة، خلصت إلى الدعوة  للاهتمام بالموسيقى وتعليمها للأطفال، لكونها تنمي شخصياتهم والجوانب الاجتماعية لديه، لما تتميّز به الموسيقى كفنّ بقدرتها التي لا تضاهي على التأثير في أدق انفعالات الإنسان، والتعبير عن أحاسيسه وعواطفه، ومصاحبته في أغلب لحظات وجوده، مشيرة إلى ارتباط الطفل بالموسيقى، بدءًا من إنصاته لدقّات قلب أمه، أو غنائها له في المهد، وما يصحب ذلك من فرحة بالموسيقى في أغاني الأطفال، وحيويتهم ونشاطهم باندماجهم في الألحان، فتستثير الموسيقى في الطفل انفعالات عديدة، كالفرح والحزن والشجاعة والقوة والتعاطف وغيرها، وهو ما يساهم في إغناء عالَمه بالمشاعر التي تعمّق من إحساسه بإنسانيته.

 بعد مضيّ عقدين من الزمن على هذه الدراسة، هل المرأة العربية حاليًا، المستلبة تكنولوجيًا من كلّ حدب وصوب، قادرة على إنتاج أو حتى التفاعل مع أناشيد، لن تجد الوقت لو شاءت لكي تنشدها لطفلها قبل النوم، كما كانت الأم الكويتية تفعل؟

مثلك مثلك ما جابوا  

لو حندبوا ولا شابوا

عندما سيكتب المؤرخون في المستقبل عن هذا الزمن الإنترنتي العالمي، يريدون أن يصفوه ببعض أوصافه أنثروبولوجيا، ستكون هذه العبارة من عباراته البليغة «إنه الزمن الذي توقّفت فيه الأمهات عن الغناء».

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

الروائح مدخل للتسامح وفهم العالم

أطفالنا وقراءة الكتب الرقمية

لكل فشل علاج

ماذا يحدث عندما نكبر

مستقبل القراءة

 

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق