حكمة التقشف
على مر العصور، عبّر المفكرون والفلاسفة والحكماء عن أهمية التقشف، كما عاش أغلبيتهم حياة من البساطة والزهد. ولطالما أكدوا أن التقشف هو الدواء الشافي للعقول والأجساد المضطربة في الأوقات العصيبة، علمًا بأنه على العموم، دائمًا ما بدت جميع الأوقات عصيبة لأولئك الذين عايشوها. فكان سقراط يربط البساطة والتقشف بالسعادة، وهو الذي تجنّب الثروة المادية لمصلحة حياة الفضيلة، كما فعل أبيقور بعد قرن من الزمان.
كان أفلاطون
يدعو إلى التواضع
في السكن والملبس
والغذاء، مجادلًا بأن
البساطة في تلك
الأمور من شأنها
أن تشجع على
النقاء الأخلاقي. أما الفيلسوف
الإغريقي ديوجين فقد
ذهب بعيدًا في
حياة التقشف التي
عاشها، وهو الذي
كان يستخدم جرّة
خزفية كبيرة كمأوى
له، وكان في
كثير من الأحيان
ينام على عباءته
المطوية فقط، وكان
يتبع نظامًا اقتصاديًا
يتجاوز حتى التطرف
الشبيه بالرهبنة، حتى
أنه يُحكى أنه
بعد مشاهدته طفلًا
يستخدم يديه ليشرب
الماء، رمى كأسه
الوحيدة، لأنه شعر
بالخجل من أن
ذلك الطفل تجاوزه
بالبساطة.
ومن بين
الفلاسفة الأكثر حداثة
تمكننا الإشارة إلى
فريدريك نيتشه الذي
كان يعيش، كما
تم وصفه، فوق
جبل مثل راهب
من دون دير،
وإلى المفكر والفيلسوف
الأميركي هنري ثورو
الذي حاول، عند
انتقاله إلى منزل
جديد أمام بحيرة
كبيرة، تأمين كل
الظروف للعيش في
عزلة تامة على
غرار الحياة التي
عاشها روبسون كروز
بطل رواية «مغامرات روبنسون
كروزو»، التي
كتبها دانيال ديفو،
وتروي قصة الشاب
روبنسون كروزو الذي
عاش على جزيرة
وحيدًا، وقضى فترة
طويلة دون أن
يقابل أحدًا من
البشر، وذلك لأن
ثورو كان يؤكد
أن التبريرات العقلية
للعيش ببساطة عديدة،
لكن لا يوجد
شيء أقوى من
قوة الطبيعة، إذ
إن القرب من
الطبيعة أمر ضروري
إذا أراد المرء،
كما يلاحظ ثورو،
«أن يعيش
عميقًا... ويمتص
كل نخاع الحياة».
المعيار الأساسي
لكن السؤال
الذي يبرز هنا
هو أنه إذا
كانت تلك هي
دعوة العديد من
المفكرين والحكماء في
العالم، فلِمَ لم
يصبح التقشف هو
المعيار العالمي الأساسي
المتبع؟ هناك نقطة
واحدة يتفق عليها
معظم الحكماء مناصري
التقشف، هي أنه
ليس من الصعب
تحقيق البساطة في
حياتنا، فبعد كل
شيء، ضروريات الحياة
قليلة، ويمكننا الحصول
عليها بسهولة، بما
في ذلك الطعام
والشراب الضروريان للبقاء
والحماية من العوامل
الطبيعية في شكل
الملابس الأساسية والمأوى.
لكن العديد
من مشكلاتنا الحديثة
يكمن في قائمتنا
الطويلة، بشكل مطّرد،
من «الضروريات»، مثل
الكهرباء وتكييف الهواء
والسيارات والمواقد والثلاجات
والهواتف الذكية وأجهزة
الكمبيوتر والـ «واي فاي»، وما إلى
ذلك.
كذلك فإن
الاقتصاد الحديث أخذ
يبني على قدراتنا
على الإنتاج، ومن
ثم الاستهلاك بشكل
أسرع وأسرع. يقول أمريس
ويستكوت في كتابه
«حكمة التقشف...
لماذا الأقل هو
الأكثر - تقريبًا»، أنه
كان هناك وقت
عندما كان من
المنطقي إصلاح الأشياء
بدلًا من استبدالها،
لذلك كان الناس
يتجرأون على ارتداء
الجوارب المرتّقة، ويستخدمون
الأغطية المرقّعة، ويأخذون
الراديو الخاص بهم
أو ساعتهم المعطلة
للتصليح.
وعلى الرغم
من أننا قد
نجد إلى يومنا
هذا العديد من
المصلّحين الموجودين في
بعض الأحياء القديمة
بالمدن والقرى هنا
وهناك، فإن إصلاح
الأشياء لم يعد
متوافقًا مع مفاهيم
الحياة الحديثة، كما
أنه بات من
دون جدوى اقتصادية،
عندما أصبحت نصف
دزينة من الجوارب
بتكلفة ما يمكن
أن يحصل عليه
العامل الذي يعمل
بالحد الأدنى للأجور
في أقل من
ساعة من العمل،
وعندما تكون تكلفة
إصلاح أي جهاز
أكثر من سعر
شرائه وهو جديد. كل
ذلك، إضافة إلى
أمور أخرى، أدى
إلى إدارة مجتمعاتنا
وفقًا لمبدأ الجشع
على أساس لائحة
لا متناهية من
المقتنيات وتجديدها باستمرار،
مما يطرح مشكلة
عويصة كان قد
أشار إليها المهاتما
غاندي عندما قال
إن: «الأرض توفّر
ما يكفي لتلبية
احتياجات كل إنسان،
ولكن ليس جشع
كل رجل».
مهمة استراتيجية
ومن هنا
تبدو أهمية التقشف
الذي ليس هو
الاقتصاد أو التوفير
في المال أو
الطعام، فقط، لكنه،
كما يوضح ترينت
هام في كتابه
«الدولار البسيط»، متعلق بما
هو أكثر من
ذلك بكثير. فهو يرتبط
بمجموعة أوسع من
الخيارات والقيم الحياتية
وتقدير الملذات البسيطة
والتخفيف من المقتنيات
بشكل عام في
مجتمع يشجع على
التنافس والمادية.
ويفرض اتباع
التقشـــف ضرورة طرح
مجموعة من الأسئلة
المهمة عند التفكير
في شراء أي
شيء، مثل: هل
أنت حقًا بحاجة
إلى ذلك المنزل
الكبير؟ ما هو
أصغر حجم منزل
تحتاج إليه؟ كم
ستكون تكاليفه من
حيث الصيانة والتدفئة
والتنظيف والتأثيث وخلافه؟
أو، هل حقًّا
أنت بحاجة إلى
سيارة جديدة؟ هل
حتى أنك تحتاج
إلى سيارة على
الإطلاق؟ أو، هل
أنت حقًّا بحاجة
إلى شراء خاتم
الخطوبة الماسي الباهظ
الثمن، أو إقامة
ذلك العرس الكبير
الفاخر؟
وهل هناك
فعلاً رابط بين
الحب والإنفاق؟ أو،
هل تحتاج فعلاً
إلى تجديد أجهزتك
الإلكترونية؟ لماذا لا
يمكنك استخدام هاتف
أو كمبيوتر محمول
قديم الطراز لبضع
سنوات أخرى، إذا
كان ذلك يوفر
عليك 1000 دولار أو
أكثر؟
وهل أن
الرغبة الفعلية في
اقتناء ذلك الجهاز
الجديد تنبع من
الرغبة في إقناع
الآخرين والتباهي أمامهم،
أو من حاجتك
إلى خدمات لا
يمكن لجهازك القديم
تقديمها لك؟
فالتقشف يدور
حول شراء أقل،
والشراء بشكل أفضل،
والوقوف في وجه
الاستهلاك الطائش، وحول
ضرورة أن يصبح
التسوق مهمة استراتيجية
محسوبة بدقة، وليس
مجرد هواية للتسلية
وإرضاء الذات.
وعلى الصعيد
الشخصي، بغضّ النظر
عن الوضع المالي
العام الذي يكون
عليه الشخص، فإن
الاستراتيجيات المقتصدة دائمًا
ما يكون لها
مكان مناسب في
حياتنا.
فإذا كان
وضع الشخص المالي
جيدًا، فقد يساعده
التقشف على الاستعداد
للتقاعد، وإذا كان
بالكاد يغطي نفقاته
ويستدين من أجل
ذلك، يمكن للتقشف
أن يساعده على
سداد جزء من
ديونه، وإذا كان
يكافح من أجل
البقاء والاكتفاء بمجرد
الضروريات، فإن التقشف
يعد ضوءًا في
نهاية النفق. وكما يقول
ترينيت هام، أيضًا
في كتابه «الدولار البسيط» إن
«الاستراتيجية هي
نفسها دائمًا، لكن
الفائدة تستخدم بشكل
مختلف».
ثقافة العصر الحديث
وإذا نظرنا
حولنا فسنجد أن
العصر الحديث بدأ
يكتشف فوائد التقشف
وأهمية اتباعه كمبدأ
أساسي في حياتنا
المعاصرة، فقد كثرت
على الإنترنت المدونات
التي تقدم المساعدة
في زيادة المدخرات
المالية، وتلك التي
تقدم معلومات متنوعة
حول كيفية اتباع
نمط حياة أكثر
تقشفًا وانتظامًا، وأخرى
تساعد على وضع
الميزانية المنزلية ورسم
الاستراتيجيات الفعالة لسداد
الديون، وغيرها التي
تقدم وصفات طعام
ذات قيمة غذائية
عالية بتكلفة أقل،
أو تلك التي
تطلعنا على «أين يمكننا
العثور على أفضل
الخصومات»؟
كما تتميز
شبكة Pinterest
الاجتماعية وتطبيق "You Tube"
أيضًا بوجود هؤلاء
المدونين الذين ينادون
بالتقشف.
وهناك سلسلة
طويلــة من الكتــــب
مثـــل، «كيف يمكنك
أن تنفـــق أقل
وتعيش أكثــــر؟» من تأليف
ميشــــيل ماكغاه، أو
كــــتاب «لن أشتريها... عامي
من دون تسوق»
من تأليف جــــوديث
ليفيــــن، التي ترسم
الطريق الصحيح إلى
التقشف.
هذا إضافة
إلى برامج تلفزيونية
عدة تخبرنا كيف
ننفق أقل على
الطعام، وكيف نحصل
على المزيد من
المال، وكيف نصنع
شيئًا جديدًا من
أشياء قديمة بدلاً
من رميها في
مكبّ النفايات. إلى جانب
وجود قوائم من
أصحاب المشاريع الحرة
الذين يكسبون رزقهم
من بيع الأشياء
المستعملة على موقع
eBay ومواقع
أخرى على الإنترنت.
العرق الذهبي
قد يكون
كل ذلـــك بدايـــــة
استــجــــابة لدعــــوات الحكماء،
مــــاضـــيًا وحاضــــرًا، ليس
فقط من أجل
مصلحة الأفراد الشخصية،
ولكن أيضًا من
أجل المحافظة على
الموارد البيــــئية المحـــدودة
وتحسين البصمة الكربونـــية
لمساعــــدة كوكــب الأرض،
وقــــد يكـــــون أيضًا
توق إلى حياة
أكثر بساطة عاشتها
الأجيال من قبلنا،
توق لطالمــــا لازم
كل جيل بالنسبة
إلى الجيل الذي
سبقه، إذ منذ
ألفين وخمسمئة عام،
كتب الشاعر اليوناني
هســــــيودوس بشوق عن
حقبة البشر الأوائل،
الذين سماهم بـ
«العرق الذهبي
للبشر»
الذين كانوا «متحررين من
الكدح والحزن»، وعبّر
لوكيوس سينيكا، الفيلسوف
والمفكر الروماني، بعد
ذلك بـ 500
عام، عن حنين
لـ «عصر ما
قبل المعماريين والبنّائين،
قبل أن يشعر
البشر أن سعادتهم
تعتمد على الكماليات
مثل قطعة خشب
البناء».
وقد يكون
أيضًا الإدراك بأن
الحياة البسيطة هي
أضمن طريق إلى
السعادة في ثقافة
ترسل رسائل مربكة
حول السعي المتواصل
إلى المركز والثروة.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
الخطاب في الرسوم
المتحركة الموجهة للأطفال
في استرجاع عادة
الاستعارة من الجيران
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق