الثلاثاء، 5 أبريل 2022

• التَّسَامحُ أفقًا للتَّفكير والتَّدبير


التسامح

لم يعُد التسامح مجرد قيمة إنسانية سامية أو اختيارًا شخصيًّا دالًا على نُبل صاحبه، وإنما أصبح رؤيةً في التدبير، وأفقًا في التفكير، له أُسُسهُ ومرتكزاته، وله مجالات تدخّله وميادين تأثيره، والحديث عنه ليس من باب التّرف الفكري أو استشراف المستقبل أمام انهيار الحدود بين البشر، لكنّه ضرورة أخلاقية قبل كل شيء.

فالإنسان أخ للإنسان، وليس عدوًّا أو منافِسًا، والأرض بخيراتها، تَسَعُ الجميع، وكلٌّ يعمل على شاكلته، واحتمال الخطأ وارد، ولا حرج فيه، إذا سعى المرء لتصويب الخطأ وتدارك الخلل، ولا عيب في المنافسة الشريفة مع احترام اختيارات الآخر المخالف، فالاختلاف لا يُفسِدُ للودّ قضية، كما أنَّ جمال الكون مصدره هذا التنوع والغنى في الرؤى والتصوّرات،  ومن ثمّ ينبغي أن ننظر إلى التسامح بوصفه خلفيةً عَقَدِيّةً وتمثُّلًا عقليًّا، حتى نتمكن من نقله من الفكر إلى السلوك، فيتمظهر في العلاقات والمعاملات، أليس الدِّينُ المعاملة؟

ثم إنَّ التسامح اليوم لم يعد حبيس النظريات الفلسفية أو التعاليم الدينية، وإنما أصبح موضوعًا في عدد من العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية، ولا شك في أن النظر إليه من هذه الزوايا المتفرّقة قد أغنى دلالاته، وما من شكّ أيضًا في أنَّ الاهتمام المتزايد بالتسامح ودوره في تدبير الاختلاف، يفرض التفكير بجدية في الموضوع، وتناوله من زوايا جديدة، بُغية استثماره في تعزيز الهوية الإنسانية، هذه الهوية التي لم تعد مرتبطة بالقبيلة أو العِرق أو التاريخ والجغرافيا، بل أصبحت منفتحة على كل المكونات الأخرى داخل المجتمع، لتشمل كل العناصر المؤهّلة لتنمية الوطن وحماية مصالحه، وإنَّ تجسيد هذا الدور المهم يقتضي تضافر جهود كل الفاعلين والمتدخلّين، حتى يصبح التسامح مُؤسَّسَةً قائمة بذاتها.

وتعتبر الثقافة أحد مداخل ترسيخ التسامح، فإذا كانت الثقافة تشمل جملة من القيم الإنسانية المشتركة كالحريّة وقبول الاختلاف وحماية التنوّع، فإنَّ نشر الوعي الثقافي داخل مجتمع ما، يزيد من فرص الحوار والتفاهم، نظرًا للأسس الثقافية التي تحثُّ على استعمال العقل والمعرفة والحوار، وتوظيف القدرات الإبداعية والفنية والعلمية في حلّ المشكلات المعاصرة بأسلوب سلمي وعقليّ يراعي المتغيّرات، ويعمل على تطوير البنيات الموجودة، وفي الآن ذاته يحافظ على الثوابت والمكتسبات، دون أيّ نزعة للتبخيس أو ازدراء ما لدى الغير، وإنّما يتعايش الجميع تحت سقف الوطن، البيت الكبير الذي يسعُ مكونات المجتمع، ويحمي مواطنيه وضيوفه العابرين والمقيمين فيه.

  لقد أسّس القرآن الكريم، في عدد من آياته، لمفهوم التسامح، مثل قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ (سورة آل عمران - الآية 159)، وفي آية أخرى قوله عزّ من قائل: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ  (سورة النور - الآية 22)    

 كما تزخر السيرة النبوية، بمظاهر التسامح ومكارم الأخلاق، ما يُدهش المرء ويجعله يُغَيِّرُ الكثير من مواقفه وآرائه، تُجاه قضية التسامح، والتي تُمثّلُ مفهومًا مركزيًا في الثقافة العربية الإسلامية، يتجسّد في الممارسة لا في القول فحسب، أيّ الأخلاق العملية وليس التنظير ومجرّد الكلام، ولذلك فإنَّ الأخلاق هي المؤهّل الحقيقي الذي يتجاوز كل العقبات، وهو فوق الشّهادات والمؤهِّلات، فلا يحتاج المرء إلى الكثير من الكلام بقدر ما يحتاج للمزيد من إتقان العمل وتجويده، والوفاء بالعهود والالتزامات، ولذلك كان الاحتجاج بالعمل أقوى من الاحتجاج بالنُّصُوص، لأنَّ العملَ لا يقبلُ تأويلًا.

عطاءات مختلفة

إنَّ التسامحَ بوصفه رؤيةً في التدبير وأفقًا في التفكير، يتجاوز ترسيخ مبادئ الحوار والتفاهم والتعايش داخل مجتمع ما، إلى تأسيس دولة التسامح، وهو مشروع رائد، بالنظر إلى ثماره في ترسيخ الاستقرار على المدى القريب والبعيد، ويتطلّب تنزيله على أرض الواقع، عطاءات مختلفة وسنوات عديدة من الاستثمار في بناء العقول وتزكية النفوس، حتى ترقى إلى خُلُقِ التسامح، إذ لم يكن سهلًا على الإنسان أن يغفر زلات أخيه الإنسان، أو يتجاوز عمّن ظلمه أو أساء إليه، أو يغفر لمن تفوّق عليه أو نجح أكثر منه، أو يفتح المجال للمخالف كي يعبّر عن حضوره ووجوده، فهذا سلوك لا يرقى إليه إلّا نخبة من الصالحين الذين جاهدوا أنفسهم وطردوا شُحَّ النفوس، وكانت قلوبهم عامرة بالمحبة والإيثار والتضحية، وهو منتهى الصَّبر وأبلغ مدى من التحمّل، كما قال تعالى ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (سورة فصلت - الآية 35).

إنَّ دولة التسامح تسنّ القوانين التي تحفظ الحرية وتوجب احترام الآخر، والتعامل معه وفق مبدأ الإنسانية ومبدأ الاستحقاق، وليس مبدأ القرابة أو العِرق أو نزعة القبيلة، مع العمل على توفير البنيات التحتية المؤهّلة لاستيعاب الاختلاف، بعيدًا عن أيّ نزعة لتجريد الآخرين من معتقداتهم أو دفعهم للتخلي عن آرائهم واختياراتهم، وهذا هو ما قصَدَتْهُ الآيةُ الكريمة «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»( سورة البقرة - الآية 256)، فالدين وإن دلّ على الإسلام في بعض معانيه، فهو يدل أيضًا على المعاملة والسلوك، فلا إكراه في المعاملات أو جعل الآخرين يتبنّون موقفًا معينًا بالقوة أو التهديد، ذلك سوء أدب وغلوّ وتطرّف وأنانية لا تليق بالإنسان المتحضّر والواعي.

ولعل من أخطر التحديات التي تواجـه ترسيخ التسامح في مجتمعــات اليـوم، قضية حريّــة التــدين، فالحروب المستقبلية حسب بعض الدراسات الاستشرافية ستكون حروبًا دينية، وهذا يعني أنّ الحسم في حرية التدين، يشكّل مدخلًا للوقاية من التطرف والعنف، فالمتطرّف الدِّينيّ عادة ما يبحث في النصوص الدينية عن كل ما يؤكد به ضرورة إقصاء الآخر المخالف، أو التعامل معه بنوع من الجفاء، مع أنَّ الفطرة السليمة ترفض إلحاق الضّرر بالآخرين، ولذلك لا بدّ من تجديد الفطرة وإحياء صوت العقل، إذا أردنا مجتمعًا سليمًا، وقد لا يتحقق ذلك إلا بسُلطةٍ أخرى تتمثّل في القانون.

حضارة التسامح

عندما تسنّ الدولة قوانين لحماية المواطنين وتضمن لهم حرية الاعتقاد وتجرّم الانتقاد المسيء للعقائد والملل، تكون بذلك قد أسَّسَت لحضارة التسامح، فالتاريخ الإنساني أثبت أنَّ ازدهار الحرية في مجتمع ما، يؤدي إلى ازدهار بقية المجالات، ومثال ذلك ما عرفته أرض الأندلس من حضارة زاخرة أسهم في نهضتها كل فئات المجتمع، بفضل مساحة الحرية، الناتجة عن إشاعة قيم التعايش واحترام الاختلاف، وإعلاء شأن العقل والتفكير، وجعل مبدأ الاستحقاق سُلّما ترتقي به فئات المجتمع في مناصب الدولة، وهي عوامل صناعة حضارة الأندلس الخالدة، والتي ظلّت آثارها ماثلة للعيان إلى يومنا هذا.

أخيرًا، إنَّ التسامح يفرض اليوم ضرورته مع التطور التكنولوجي الذي ساعد على محو الحواجز بين البشر، بل محو الحدود الجغرافية على نحو لم يسبق له مثيل، حيث تمكّن الإنسان من السفر إلى كل بقاع الدنيا وهو في مكانه لم يتحرّك بالجسد، وإنّما يتجوّل عبر الصور والمناظر وراء شاشات الحاسوب أو الهاتف، ويُشارك الآخرين إحساسه ومشاعره ومواقفه ورؤاه، عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي البيئة الجديدة، أو الواقع الموازي الذي أصبح مؤثرًا في الواقع المادي، ويقتضي من أجل سلامة المجالين الرقمي والواقعي، ترسيخ التسامح أفقًا للتدبير والتشارك والتفكير والتبادل.

إنَّ أيَّ حضارة، لم تقم إلّا على مبدأ التسامح، وإشاعة هذا المبدأ في مجتمع ما، يحوّل التنوّع والاختلاف إلى أشكال من العمل والإنتاج، تصبح مصدر نهضة حقيقية، ولذلك عندما يصبح التسامح أفقًا في التفكير والتدبير، يتحقّق التوازن في المجتمع، ويتأسّسُ جسر العبور الآمن من دهشة البداية وتوتر الانطلاق، إلى رؤية مستقبلية، ترى العمل والتعاون والتضامن والاحترام قيمًا إنسانية عليًا، لصون كرامة الإنسان، بغضّ النظر عن مواقفه واختياراته، ولذلك غالبًا ما تحظى الدول الأكثر تسامحًا بترتيب عالمي مُشرِّف جدًا في سُلَّم رفاهية العيــش والشـعور بالسعـادة والأمن وجــودة الحياة.

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

الروائح مدخل للتسامح وفهم العالم

أطفالنا وقراءة الكتب الرقمية

لكل فشل علاج

ماذا يحدث عندما نكبر

مستقبل القراءة

 

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق